الروح القدس وعمله في الأسرار
ليس من طريق لنوال الطبيعة الجديدة ومواهب الروح القدس إلا بواسطة الكنيسة أي عمل الروح القدس في أسرار الكنيسة السبعة ونوال فاعلية عمله بواسطة الكهنوت، لأن الرسل الأطهار استقبلوا عطية الروح القدس في صورة كنيسة، وينابيع الروح القدس في الكنيسة لا تنضب لأنها جسد المسيح والروح القدس يستقر على جسد المسيح (أف 1: 23). وكما يقول داود النبي " نهر سواقيه تفرح مدينة الله" (مز 46: 4)، فالنهر هو الروح القدس الذي يفرح النفس وهي مسكن الله بواسطة سواقيه المتعددة التي هي أسرار الكنيسة.
1. في سر المعمودية:
"أن كان أحد لا يولد من الماء والروح لا يقدر أن يدخل ملكوت الله " (يو 3: 3، 5).
رسم الرب سر التجسد ونوال الطبيعة والولادة الجديدة أن يناله الإنسان عن طريق سر المعمودية وهكذا يعمل الروح القدس من خلال هذا السر "لا بأعمال في بر عملناها نحن بل بمقتضى رحمته خلصنا بغسل الميلاد الثاني وتجديد الروح القدس الذي سكبه بغنى بيسوع المسيح مخلصنا" (تيط 3: 5-6)، (1 كو 12: 13).
2. في سر المسحة:
"الذي فيه أيضا إذ آمنتم ختمتم بروح الموعد القدوس الذي هو عربون ميراثنا لفداء المقتنى لمدح مجده " (أف 1: 14).
لقد كانت المسحة في العهد القديم أهم الطقوس لتكريس الشخص الممسوح للخدمة والمكرس لله فكان يمسح بها الملوك والكهنة والأنبياء وكان دهن المسحة له إعداد خاص (خر 30: 23-33)، وبذلك كانت إشارة لمسحة الروح القدس والتي ننالها في سر الميرون سر التثبيت حيث تتقدس النفس ويهبها الروح القدس إمكانية القداسة " المولود من الجسد جسد هو و المولود من الروح هو روح" (يو 3: 6).
3. في سر التوبة والاعتراف:
"الروح يعين ضعفاتنا و الروح نفسه يشفع فينا " (رو 8: 26، أف 2: 18).
كما أن الروح القدس يعمل فينا ليقودنا للتوبة فهو يشجعنا ويبكتنا على خطايانا لنقدم توبة عنها ويشعل فينا الحماس للرجوع لله، كذلك عندما نعترف بها هو أيضا يمنحنا الغفران عنها (مت 18: 18). وذلك عن طريق الرسل ومن بعدهم الكهنوت " ولما قال هذا نفخ وقال لهم اقبلوا الروح القدس من غفرتم خطاياه تغفر له ومن أمسكتم خطاياه أمسكت " (يو 20: 22).
4. في سر الإفخارستيا (التناول):
يقوم الروح القدس حين يستدعيه الكاهن في صلاة القداس فيحول الخبز والخمر إلى جسد الرب ودمه الأقدسين إذ يحل على الأسرار وعلى الكاهن والشعب ليصيروا أهلا لنوال السر.
5. في سر مسحة المرضى:
بالصلاة يحل الروح القدس على الزيت وعلى المريض فيعمل من خلال مسح المريض بهذا الزيت فيعطيه قوة الشفاء "أمريض أحد بينكم فليدع قسوس الكنيسة فيصلوا عليه ويدهنوه بزيت باسم الرب وصلاة الإيمان تشفي المريض" (يع 5: 14-15).
6. في سر الزيجة:
يعمل الروح القدس عمله التام السري في هذا السر إذ يجعل من الزوجين واحد. . . إذا ليس بعد اثنين بل واحد. "ويكون الاثنان جسدا واحدا هذا السر عظيم ولكنني أنا أقول من نحو المسيح والكنيسة " (أف 5: 31 -32).
7. في سر الكهنوت:
هذا السر هو تاج الأسرار وقد استودع الرب تلاميذه هذا السر الذي هو مفتاح كنوز بقية الأسرار إذ منحهم السلطان " ها أنا أعطيكم سلطانا" ( لو 10: 19) وهو سلطان ليمارسوا كافة الأسرار لأنهم خدامه على الأرض " لكنكم ستنالون قوة متى حل الروح القدس عليكم وتكونون لي شهودا" (أع 1: 8).
- الروح القدس وعمله فينا
الروح القدس في العهد القديم كان يحل على الأشخاص ثم يفارقهم بعد انتهاء العمل أو النبوة وهذا بخلاف حلوله على الكنيسة في العنصرة إذ صار في صورة جديدة لم تعرف من قبل وعطية متميزة، فقد امتلأ الجميع من الروح القدس فلم يعد حلولا فرديا أو وقتيا أو مغلقا، كذلك لم يتوقف حلوله على اختيار أو دعوة خاصة أو ميزات طبيعية بل صارت العطية للكنيسة كلها، كما أنه حلَّ ليسكن في الكنيسة ولا يفارقها " ألستم تعلمون أنكم هياكل الله وروح الله ساكن فيكم" (1 كو 3: 17)، ولم يكن حلوله في العنصرة لمأمورية أو عمل بل قوة من الأعالي فائقة ولم تكن معهودة وهو ما كان قد تنبأ عنه يوئيل النبي قديما وأشار إليه القديس بطرس في ذلك اليوم ليذكّر به الجميع " يكون أني أسكب روحي على كل بشر فيتنبأ بنوكم و بناتكم ويحلم شيوخكم أحلاما ويرى شبابكم رؤى" (يؤ 2: 28-29، أع 2: 16).
ويدعونا القديس بولس الرسول أن نتعهد عمل الروح القدس فينا و نسير في طريق الروح باستمرار لننال ثمر الروح من خلال معاملاتنا مع الروح القدس الساكن فينا وذكر لنا القديس بولس أربع وصايا هي:
لا تحزنوا الروح (أف 4 : 30)
الروح القدس لأنه فيض المحبة ومشيئته خلاصنا إذن فهو يحزن بسبب خطايانا وشهواتنا ومما يحزن الروح الرجوع إلى أعمال الإنسان العتيق وطبيعته القديمة التي جحدناها في المعمودية وهي : الكذب، والغضب، وأن نعطي إبليس مكانا، والسرقة، والكلام الرديء، والمرارة، والسخط، والصياح، والتجديف، والخبث، تلك التي ذكرها القديس في رسالته إلى كنيسة أفسس (أف 4: 25-31).
لا تطفئوا الروح (1 تس 5: 19)
لا تطفئوا أي لا تخمدوا نار الروح القدس وهو تعبير عن حقيقة عمل الروح القدس وطبيعته من نور واشتعال مستمر فينا حيث أنه يعمل في داخلنا "وإما متي جاء ذاك روح الحق فهو يرشدكم إلى جميع الحق" (يو 16: 13)، أنه دائم العمل بنوره فيرشد ويعلم ويهبنا قوة التغيير داخليا، نتغير إلى تلك الصورة عينها لنصير مشابهين لصورة مجده ونرتقي من مجد إلى مجد (2 كو 3: 18)، أن تأجج حرارة الروح فينا هي استعلان تجلي المسيح في حياتنا لينعكس نوره الإلهي في داخلنا.
اسلكوا بالروح (غلا 5: 16)
السلوك بالروح هو أن تلتقي إرادتنا مع إرادته وتتوافق أشواقنا مع اشتياقاته فيسري فينا روح الله وينفذ إلى طبيعتنا لنتشرب به وأن كان الروح يشتهي ضد الجسد (غل 5: 17) فواضح أن مفهوم السلوك بالروح أن لا نسلك في أعمال الجسد التي هي "زنى، عهارة، نجاسة، دعارة، عبادة أوثان، سحر، عداوة، خصام، غيرة، سخط، تحزب، شقاق، بدعة، حسد، قتل، سكر، بَطَر و أمثال هذه..." (غلا 5: 19-21). والسلوك بالروح يهيئ مكانا في داخلنا يستريح فيه الروح القدس لأنه لا يسكن إلا في القديسين ولنتذكر أن الحمامة التي أطلقها نوح من الفلك بعد انتهاء الطوفان وهي ترمز للروح القدس لم تجد لها مكانا بين جثث الموتى التي أنتنت فلم تضع رجلها ولم تجد لها مستقرا بينها فعادت إلى الفلك، فالروح القدس له مدلولات كثيرة منها أنه روح الله، وروح المجد، وله أعمال ظاهرة فهو يعلم، ويرشد، ويعزي، لكن الصفة التي يشدد عليها الكتاب المقدس أنه الروح القدس (يو 14: 26، أع 2: 4) لأن القداسة هي الطريق الوحيد ليسكن ويستقر فينا " أم لستم تعلمون أن جسدكم هو هيكل للروح القدس" (1 كو 6: 19).
امتلئوا بالروح (أف 5: 18)
يدعونا الكتاب المقدس إلى الامتلاء بالروح (أف 5: 18)، ويذكر عن الرسل أنفسهم أنهم امتلئوا من الروح القدس في مناسبات عديدة .
لقد سكن الروح القدس فينا بالمعمودية لكننا نحتاج أن يتدفق باستمرار في حياتنا وهذا ما نشاهده في كرازة الرسل فقد حدثت امتلاءات أخرى من الروح القدس في أكثر من مناسبة فلكي يشهد القديس بطرس للمسيح بالقيامة أمام مجمع السنهدريم الذي حكم على المسيح بالصلب كان يتطلب امتلاءا جديدا ، وفي اختيار الشمامسة السبعة للخدمة وهو أمر هام يحتاج لامتلاء من الروح القدس، و مواجهة عليم الساحر المضل يحتاج امتلاء وكذلك التلاميذ وهم في أيقونية (أع 4: 8، 31، 6: 3، 13: 9، 52) .
والامتلاء بالروح القدس ليس كما يَّدعي البروتستانت بأنه نوال للمواهب ولم يكن بأي حال السبيل إليه ذلك التشنج في الصلاة فهو ليس نشوة عاطفية نفسانية بعيدة تماما عن عمل الروح القدس، لكنه تدفق ينابيع الطاقة في الكنيسة وفينا فالامتلاء من الروح القدس لا يعني إناء فارغ يمتلأ فهو ليس فعلا إضافيا بل هو فيض الروح القدس في داخلنا وتدفق مستمر لا ينقطع "ذاك يمجدني لأنه يأخذ مما لي ويخبركم" (يو 16: 14). فالامتلاء من الروح القدس هو تفجر وتدفق الينابيع فتجري أنهار ماء حي (يو 7: 38)، هو النفخ في نار يوم الخمسين التي داخلنا فتتأجج وتشعل حرارة أرواحنا، تلك النار التي قال عنها المخلص " جئت لألقي نارا على الأرض فماذا أريد لو اضطرمت" ( لو 12: 49).
- ثمر الروح
"وأما ثمر الروح فهو محبة فرح سلام طول أناة لطف صلاح إيمان، وداعة تعفف" (غلا 5: 22-23 ).
الروح القدس يجدد طبيعة الإنسان وهو يبعث الفرح في نفوس الشهداء وينزع الحزن من العالم ويهب التعزية في الآلام.
ليس من فضيلة أو نعمة إلا من كنز الروح القدس الذي يعطى بغنى، إنه الروح الذي يحي الكنيسة و يعينها بكل وسائط النعمة فهو مصدر الغنى في الكنيسة و العامل في الكرازة والفاعل في الأسرار. و في هذا العيد المجيد ننحني مع هؤلاء الساجدين وسط الكنيسة ومع الرسل الأطهار ونرفع أصواتنا بالتسبيح ونقول: " تعال إلينا اليوم يا سيدنا المسيح وأضئ علينا بلاهوتك العالي، أرسل علينا هذه النعمة العظيمة التي لروحك القدس المعزي (الأسبسمس الآدام). آمين
__________________