نتابع حديثنا عن صفات المحبة كما وردت في1كو13فنتناول صفة أخري لها وهي:
المحبة لاتفكر في ذاتها,ولكن فيمن تحب..
تفكر في الذي تحبه:كيف ترضيه,وكيف تعطيه,وكيف تريحه وتجلب السرور إلي قلبه..وفي كل ذلك لاتطلب مالنفسها.بل قد تبذل نفسها لأجل من تحبه.ذلك لأنه أن كان من طبيعة الأنانية أنها تريد دائما أن تأخذ,فإنه من صفات المحبة أنها تريد دائما أن تعطي...
عنصرا المحبة الرئيسيان هما أن تحب الله,وأن تحب الناس.وفي كليهما لاتطلب المحبة مالنفسها.
وهكذا كانت صلاة التسبيح والتمجيد هي أقدس الصلوات,لأن الذات لاتوجد فيها علي الإطلاق ,إنما الموجود فقط هو التأمل في صفات الله وحده..فنحن حينما نقول فيها:قدوس قدوس قدوس رب الصباؤوت..السماء والأرض مملوءتان من مجدكأش6:3..فإننا هنا لانطلب شيئا لأنفسنا..إنما من أجل محبتنا لله ,نتأمل صفاته,وكفي..إذن ما هو مركز الطلب في حياة المحبة؟أنه:
الله أولا,والناس بعد ذلك والذات آخر الكل..فنحن في الصلاة الربانية,إنما نطلب مايخص الله أولا:ليتقدس اسمك,ليأت ملكوتك لتكن مشيئتك كما في السماء كذلك علي الأرضوحينما نطلب بعد ذلك لأنفسنا,إنما نطلب مايخص علاقتها بالله.فكان الله أولا,ثم الله ثانيا...وما أجمل وصية السيد الرب لنااطلبوا أولا ملكوت الله وبرهمت6:33...وهل بعد ذلك نطلب ما يخصنا من أمور العالم؟هنا ويكمل الرب وصيته قائلاهذه كلها تزدادونهاأي يعطيكم الرب إياها حتي دون أن تطلبوا...
إذن إن كنت تحب الله,لاتجعل صلاتك كلها طلبا.
أقصد:لاتجعلها طلبا لنفسك.وكما قال القديس باسيليوس الكبيرلاتبدأ صلاتك بالطلب,لئلا يظن أنه لولا الطلب ما كنت تصلي...وإن طلبت لأنه قال:اطلبوا تجدوامت7:7فاطلب أولا ملكوت الله وبره...ثم اطلب أيضا الخير للغير.ولتكن نفسك آخر الكل.فهذه هي المحبة...حقا,ما أجمل قول المرتل في المزمور:
ليس لنا يارب ليس لنا.لكن لاسمك القدوس أعط مجدامز115:1.
إذن إن كنت تحب الله,ففي كل خدمتك,وفي كل ماتعمله,لا تطلب الكرامة لنفسك.وإنما لتكن كل الكرامة لله.كما قال القديس يوحنا المعمدانينبغي أن ذلك يزيد,وأني أنا أنقصيو3:30وكل الخير الذي تفعله ,ليكن ذلك لمجد الله,إن كنت تحب الله.كما قال الرب في العظة علي الجبللكي يروا أعمالكم الحسنة,فيمجدوا أباكم الذي في السمواتمت5:16.
من أجل محبة الله,قام الآباء والرسل برسالتهم,ولم يطلبوا ما لأنفسهم,بل علي العكس دفعت أنفسهم الثمن..
من أجل الله,شهد المعمدان للحق,وقال لهيرودس الملكلايحل لك أن تأخذ امرأة أخيكمت14:3, 4.فهل في ذلك كان يطلب مالنفسه؟!كلا,بل إن نفسه قاست بسبب ذلك,إذ ألقي في السجن,ثم قطعت رأسه.
وكل الشهداء والمعترفين,لم يطلبوا ما لأنفسهم,بل في محبتهم لله تعرضوا لكل ألوان التعذيب,ثم الموت أيضا...
وهكذا الكارزون,ولنأخذ القديس بولس الرسول كمثال:
وهو شاول الطرسوسي كانت له سلطة ونفوذ,ويستطيع أنيدخل البيوت ويجر رجالا ونساء,ويسلمهم إلي السجنأع8:3ولكنه لما دخل إلي الإيمان,وخسر كل الأشياء وهو يحسبها نفاية لكي يربح المسيح ويوجد فيهفي3:9,8حينئذ-في محبته للرب-ما كان يطلب مطلقا ما لنفسه.بل صار هو يحتمل السجن والهوان..جلدوه خمس مرات وثلاث مرات ضرب بالعصي.وهو يخدم الرب.ويقول عن خدمته هو وكل معاونيهفي كل شيء نظهر أنفسنا كخدام لله,في صبر كثير,في شدائد في ضرورات,في ضيقات في ضربات في سجون في اضطرابات في أتعاب,في أسهار في أصوام..2كو6:5,4بأسفار مرارا كثيرة,بأخطار سيول بأخطار لصوص بأخطار في المدينة,بأخطار في البرية,بأخطار في البحر,بأخطار من أخوة كذبة...في تعب وكد,في جوع وعطش,في برد وعري2كو12:24-27.ولماذا كل هذا العناء؟إنه من أجل محبة الله,ومحبة ملكوته وإنجيله.والمحبة لاتطلب ما لنفسها...
إنه لم يطلب مالنفسه,لأن نفسه قد ماتت مع المسيح2كو4:12,11وهكذا يقولمع المسيح صلبت,لكي أحيا لا أنا,بل المسيح الذي يحيا في غل2:20.
حقا,ما أعجب وما أعمق عبارةأحيا,لا أنا...
إن المحب الذي لايطلب مالنفسه,لا يجد تعبيرا أعمق من كلمةلا أناهذه هي خدمة الحب,التي لاتطلب لنفسها راحة ولا مجدا. خدمة الذي لايعطي لعينيه نوما,ولا لأجفانه نعاسا,إلي أن يجد موضعا للربمز132:4.
إنها خدمة الذي يجد متعته في أتعاب الخدمة,وليس في أمجاد الخدمة!الذي لايبحث في الخدمة عن ذاته,في مجال الرئاسة أو السلطة أو الظهور...وهكذا فإن الخدام الذين فشلوا,هم الذين اهتموا بذواتهم أكثر من اهتمامهم بالملكوت..
وعبارةلا أنايمكن أن تطبق في الروحيات الخاصة.
فالذي يحب الله,يقول لهلتكن لا مشيئتي بل مشيئتك,أنا لست أطلب شيئا لذاتي ,بل أسلمها تسليما كاملا ليديك,وأنساها هناك,ولا أطلب إلاك أنت,وليس سواك...ولهذا قال السيد المسيح إن أراد أحد أن يأتي ورائي فلينكر نفسه ويحمل صليبه ويتبعنيمت16:24وإنكار الذات يعني أنه لايطلب ما لنفسه.
إن الذات هي أكثر ما يضر الإنسان
لايضره العالم ولا المادة,ولا الجسد,ولا الشيطان بقدر ما تضره ذاته,إن كان يطلب في كل حين ما يرضيها,إن كانت هذه الذات,كلما تطلب مالنفسها تبعد عن محبة الله.وهكذا لخص السيد الرب كل حياتنا علي الأرض في عبارة واحدة خالدة,قال فيها:
من وجد حياته يضيعها,ومن أضاع حياته من أجلي يجدهامت10:39أن كان الإ نسان يطلب مالنفسه,فأنه يضيعها,لأنه يركز حول الذات,وليس حول الله ومحبته.
ولننظر إلي آبائنا الرهبان والنساك.
الذين سكنوا الجبال والبراري وشقوق الأرض,من أجل عظم محبتهم للملك المسيح...إنهم لم يطلبوا أبدا ما لأنفسهم بل تركوا المال والأهل والوظائف وكل المتع الأرضية.وعاشوا منسيين,بلا طعام بلا راحة,لايطلبون سوي الله,الذي صار لهم هو الكل في الكل...
هؤلاء الرهبان,صلت عليهم الكنيسة صلاة أموات لأنهم ماتوا عن العالم وكل مافيه,وما عادوا يطلبون منه شيئا لأنفسهم أتراهم ضيعوا أنفسهم,أم قد وجدوها..!ولكن لماذا نتكلم عن الرهبان وحدهم,فلنتكلم أيضا عن الذين عاشوا في رفاهية العالم.ولكن لأجل محبة الله تركوا كل شيء:
موسي النبي لم يطلب ما لنفسه,بل يبدو أنه أضاعها:
كان أميرا وقائداابن ابنة فرعونوكانت أمامه كل خزائن فرعون ومع ذلكفضل أن يذل مع شعب الله,عن أن يكون له تمتع وقتي بالخطيةعب11وماذا كانت تلك الخطية سوي تمتعه بجياة القصر,وشعبه مرهق بالعبودية!
لذلك ترك كل شيء القصر,والإمارة,والعظمة,والمال,ولم يطلب لنفسه شيئا لذلك رفع الله موسي وجعله سيدا للفرعون.
مثال آخر هو إبراهيم أبو الآباء:
قال له الرباترك أهلك وعشيرتك وبيت أبيك,واذهب إلي الجبل الذي أريكفلم يطلب لنفسه أهلا ولا وطنا,إنما طلب طاعة الرب وحده ثم قال له الربخذ ابنك وحيدك,الذي تحبه نفسك,إسحق,وقدمه لي محرقة علي الجبل الذي أريك إياه!ومرة أخري لم يطلب إبراهيم ما لنفسه,ولو كان ابنه الوحيد,وأخذ ابنه ليذبحه تكفيه محبة الله التي تسعد نفسه...
فلنتناول أيضا هذه الوصيةالمحبة لاتطلب ما لنفسهافي الحياة الاجتماعية, وحياة الأسرة الواحدة..
تعيش الأسرة سعيدة,إن كان الزوج لايطلب ما لنفسه,طاعة وسيطرة إنما يطلب سعادة زوجته وأولاده,معتبرا أن هذه هي رسالته في حياته الزوجية. وكذلك الزوجة إن اعتبرت رسالتها أن تسعد هذا الزوج,دون أن تطلب ما لنفسها مالا ورفاهية وحرية كذلك إن جعلت رسالتها أن تتعب من أجل راحة أولادها.وكذلك أيضا الأبناء إن كانوا في محبتهم للأب والأم لا يرهقانهما بكثرة الطلبات ولا بالمخالفة ولايطلبون ما لأنفسهم إلا في حدود قدرة الأسرة...
وفي الحياة الاجتماعية:الذي لايطلب ما لنفسه يقدم غيره في الكرامة ويتخذ المتكأ الأخير..
كما قال القديس بولس الرسولمقدمين بعضكم بعضا في الكرامة رو12:10 ليس فقط تنفيذا لوصية الاتضاع بل بالأكثر عن حب إذ يحب غيره ويفضله علي نفسه,فيقدمه في الكرامة علي نفسه,ويسعد إذ يجده مكرما...
وإذ يأخذ المتكأ الأخيرلو14:10إنما يسعد بأن يترك المتكآت الأولي لغيره,من أجل محبته لهم...
وفي كل ذلك,وبسبب محبته للآخرين ,فأنه لاينافس أحدا,ولا يخاصم أحدا من أجل شيء عالمي ولايزاحم الآخرين في طريق الحياة,بل يترك الفرصة للغير أن يأخذ وينال مايريد دون أن يطلب ما لنفسه...
وتظهر وصيةالمحبة لاتطلب ما لنفسهافي مجال العطاء أيضا..
فالذي يدفع العشور والبكور,ليس فقط ينفذ وصية الله,بل بالأكثر من أجل محبته للفقراء يفضلهم علي نفسه,مهما كان محتاجا للمال.بل أنه يدفع أكثر من هذا,بل يعطي من احتياجاته الخاصة.مثال ذلك تلك الأرملة التي أعطت من أعوازها ,ووضعت في الخزينة فلسين هما كل ما كانت تملك ولهذا استحقت الطوبي من فم الرب,وتسجل عطاؤها في الأنجيلمر12:42-44.
هكذا أرملة صرفه صيدا,التي لم تطلب ما لنفسها في وقت المجاعة وأعطت كل ما عندها من زيت ودقيق لإيليا النبي1 مل17 فاستحقت بذلك أن يباركها الرب ويبارك خيراتها طول زمن المجاعة في العطاء والبذل,لا يطلب الإنسان ما لنفسه,بل أنه يبذل كل شيء حتي نفسه,ويعطي غير ناظر مطلقا إلي احتياجاته الخاصة لأنه في محبته للغير يركز كل اهتمامه علي احتياج الغير,وليس علي ما يطلبه هو لنفسه لذلك فهو يعطي ليس فقط من ماله,بل راحته أيضا وصحته...
انظروا إلي السيد المسيح,وكيف أنه لم يطلب ما لنفسه..بل من أجل محبته للبشرأخلي ذاته,وأخذ شكل العبدفي 2:7وابتعد عن كل مجد عالمي.ولم يكن له أين يسند رأسهلو9:58وكذلك لم يطلب ما لنفسه,حينما انحني وغسل أرجل تلاميذهيو13,وحينما بذل ظهره للسياط,ثم صعد علي الصليب,ولم يدافع عن نفسه.وبذل حياته عنا البار لأجل الأثمة..وبين محبته لنا.لأنه ونحن بعد خطاة مات لأجلنا رو5:8.
والمحبة التي لاتطلب ما لنفسها تحتمل وتغفر..
ولكني أود أن أؤجل هذه النقطة إلي عدد آخر,حيث إن الحديث عنها قد يطول ,وليس مجاله الآن.ويكفي أن الإنسان الذي يحب,يمكنه في محبته لغيره أن يتنازل عن حقوقه,وأن يحتمل ويغفر...
الذي يحب,لايطلب ما لنفسه والذي لايطلب ما لنفسه,يستطيع أن يحب..
فإن كنت لاتطلب ما لنفسك,يمكنك أن تتعب من أجل الله والناس...تتعب في الصلاة,في الصوم,في السهر,في الخدمة لأنك لاتفكر في راحتك وصحتك,إنما تفكر في الله وملكوته,وتفكر في خير الناس وخلاصهم وهكذا تحب الله والناس,ويحبك الله والناس لأنك لاتقول:ذاتي وصحتي وراحتي.إنما تقول ملكوتك يارب,وكنيستك وشعبك.بل تقول محبتك يارب وعشرتك قبل كل شيء...
بقي أن نقول نقطة ختامية وهي:
إن الذي يطلب ما لنفسه,إنما يضيع نفسه...
كالرجل الغني الغبي ,الذي قالأهدم مخازني وأبني أعظم منها...وأقول لك يا نفسي خيرات كثيرة لسنوات عديدة...هذا الغبي ضيع نفسه.وقال له الصوت الإلهي:في هذه الليلة تؤخذ روحك منك,فالذي أعددته لمن يكون؟لو12:18-20
كذلك داود النبي,لما طلب المتعة لنفسه,أضاع نفسه,لولا رحمة الله التي اقتادته إلي التوبة,مع عقوبة شديدة فرضت عليه2صم12,11.
نكتفي بهذا الآن.وإلي اللقاء في عدد مقبل,إن أحبت نعمة الرب وعشنا.
جريدة وطنى