فوائد الألم ... وأنواعه
للبابا شنوده الثالث
نشرت بجريدة الاهرام
بتاريخ 25/11/2007
غالبية الناس أو كلهم يكرهون الألم ويهربون منه إلى حياة المُتعة والفرح. ولكننا لا ننكر أنَّ الألم صارت له فوائد كثيرة، للشخص المتألم وللمحيطين به وللعالم كله، وللعلم. فما هى فوائد الألم التي لولاها ما سمح اللـه بالألم؟ وهل الألم كله ضرر، أم له وجه آخر مضيء يمكن الانتفاع به؟ وما هى علاقة الألم بعديد من الفضائل الخاصة والاجتماعية؟ هذا ما نود أن نتحدث عنه في هذا المقال... كما نود أن نذكر أنواعاً من الألم وطريقة الاستفادة منها.
وهنا أذكر ما قاله أحمد شوقي أمير الشعراء في إحدى قصائده:
ومُتّعت بالألم العبقريّ ... وأنبغ ما في الحياة الألم.
ذلك لأن النفس تكون أكثر شفافية وحساسية في حالة الألم منها في حالات البهجة واللهو أو المتعة.
كما أن الألم دليل على الحساسية والحياة. فالعضو الميت لا يحس ألماً، أمَّا الحيّ فإنه يشعر بالألم.
«« على أنَّ أول فائدة للألم هى أنه إنذار بالمرض وبيان لموضعه، وذلك حتى يتنبه المريض إلى أن هناك شيئاً غير طبيعي في جسده يلزم أن يعالجه. وأخطر الأمراض هى التي تبدأ دون أي إحساس بالألم، وتظل تسري وتتطور دون ألم، إلى أن تصل إلى درجة من الخطورة يصعب علاجها، مثل بعض أمراض السرطان. وهنا نشعر بفائدة الألم لو كان قد بدأ منذ المرحلة الأولى، حتى نتفادى التطور السيء...
ويشبه هذا الأمر مرض الطفل الرضيع الذي لا يستطيع أن يعبر عما يشكو منه. ولكن ألمه هو التعبير الذي يكشف موضع الوجع عنده حتى نعالجه. شعوره بالألم وصراخه بسببه، هو نقطة البدء، ثم تأخذ أجهزة الكشف مجراها لتعيين المرض...
«« من فوائد الألم أنه أوجد نهضة فكرية في العقل البشري الذي وقف تجاهه لعدة أمور: لإكتشاف الألم أين هو؟ ثم البحث عن أسبابه، وأيضاً لتسكين الألم وتهدئته أو علاجه.
«« ولهذا نقول إن من فوائد الألم انه كان السبب الطبيعي في نشأة علم الطب. فلولا الألم والتفكير في التخلص منه، ما كانت هناك حاجة إلى الطب ... على أنه بتعدد أنواع الآلام، ظهرت أيضاً تعددات في تخصصات الأطباء. فكل نوع ألم، ظهر أمامه نوع تخصص طبي.
«« ولولا الألم والمرض، ما كانت المستشفيات والعيادات، وما كانت كليات الطب، وما كان العدد الجبار الذي يعمل في هذا المجال من الأطباء الذين بدافع إنساني يبذلون قصارى جهدهم لتخفيف آلام المرضى. ولولا الألم ما كان عِلم التمريض، بعدد كبير من ( ملائكة الرحمة ) لخدمة المرضى في آلامهم.
«« والألم كان أيضاً السبب في نشوء علم الصيدلة، الذي بدأ أولاً باكتشاف ما في الأعشاب من عناصر علاجية، ثم تطور الأمر إلى نهضة كبيرة في علم الأدوية، وفي الجهود العميقة المبذولة لإعداد ما يُخفف الآلام أو يزيلها.
«« ولولا الألم ما نشأ علم التخدير بأنواعه. لأنه مَن ذا الذي يمكنه أن يحتمل إجراء عمليات جراحية خطيرة له، بدون تخدير يساعده على احتمال الجراحة دون الشعور بأي ألم!
«« ومن فوائد الألم أنه كان سبباً في البحوث والاكتشافات العديدة، والدخول في التكنولوجيا الطبية بعديد من الأجهزة مثل الأشعة والـ MRI ، والقسطرة، وما إلى ذلك مما يصعب حصره. وهكذا فإن التعامل مع الألم أوجد بلا شك طفرة علمية عجيبة بلغت ذروتها.
«« من فوائد الألم أيضاً أنه يوجد دافعاً روحياً، يتقرَّب به المريض المتألم إلى اللـه، ملتمساً منه الرحمة والمعونة للشفاء. وهكذا يصبح الألم مدرسة للصلاة ومدرسة للتوبة. فإن دقائق من الألم الشديد يكون لها تأثيرها في المريض أكثر من مائة عظة يسمعها، وبخاصة في الأمراض الخطيرة والآلام الشديدة، حين يكون باب الأمل المفتوح وحده أمام المريض المتألم هو باب اللـه وليس غير. والآلام قد لا تدفع فقط إلى الصلاة، إنما أيضاً إلى النذور وإلى التعهدات أمام اللـه.
«« ومن فوائد الألم أنه يكون سبباً في التعاطف الاجتماعي، وإحاطة المتألم بالعديد من المحبين والأصدقاء والأقارب، الذين يحيطون به بكل مشاعر المودَّة، يزورونه ويطلبون له الشفاء. وهناك مَن يتبرَّع له بدمه، أو يتبرَّع له بأحد أعضائه. بل أن بعض حالات العلاج المكلفة من الناحية المالية، تكون سبباً في تبرعات من البعض لإنقاذ المريض ... إلى جوار مَن يساهمون في العناية بالمريض ورعايته. ورُبَّما لولا آلامه، ما كان كل هؤلاء المحبين حوله وما كان ما يبذلونه...
حقاً ما أعمق القلب النبيل الذي يحس بآلام غيره ويتأثَّر بها. وأعمق منه مَن يُشارك الناس في آلامهم.
«« رُبَّما غالبية ما قلناه كان عن ألم الجسد. على أن هناك أنواع آلام أخرى كثيرة منها ألم النفس. وفي المقدمة الألم الذي يقاسيه الضمير عندما يخطئ الإنسان، ألم التبكيت الداخلي والندم والحزن على ما ارتكبه. وهو ألم نافع جداً يقود إلى التوبة.
«« وتوجد آلام بسبب الضيقات والمشاكل. ومن فائدتها البحث عن وسائل لحلها، والتعاون في هذا الحل.
«« ويوجد ألم الفقر، ومن فائدته أن يكون الفقير عصامياً، يعمل على بناء نفسه بنفسه، ويتصف بالجدِّيَّة والبُعد عن اللهو. كما أن ألم الفقراء من فائدته أنه يثير العطف في قلوب المتصفين بالكرم الذين في نبلهم يتألمون بسبب الفقراء ويدفعهم هذا إلى العطاء والبذل. أمَّا البخلاء فلا يتألمون بسبب عوز الفقراء، وهذا عيب. نضيف إلى هذا أن الاحساس بآلام الفقراء وعوزهم، مع وجود فوارق اجتماعية كبيرة بينهم وبين الأغنياء، كل هذا دفع بعض الفلاسفة والمُفكِّرين إلى إرساء مبادئ الاشتراكية.
«« ولمَّا كانت بضدها تتميز الأشياء، فإن كثيراً من الآلام دفعت إلى حرص من ناحية الضد. فإن الآلام الناتجة عن ويلات الحروب، دفعت إلى حرص الدول على السلام. وآلام الذين يخافون البطالة، دفعت إلى الاعتماد على النفس والعمل في المشروعات الصغيرة. كذلك فإن ألم التشوّه دفع إلى اختراعات في التجميل.
«« من فوائد الألم أيضاً إنه درس لِمَن يستفيد منه: فآلام مرض الإيدز صارت درساً في العفة. وآلام المدخنين صارت درساً في البُعد عن التدخين أو منعه. وآلام الرسوب في الامتحان أو الحصول على مجاميع ضئيلة كانت درساً لوجوب الاجتهاد والتفوق. كذلك فإن آلام السجن والشعور بالعار هى درس للبُعد عن الجريمة.
من فائدة الألم أيضاً أنه يدفع إلى حياة الشكر: فلولا ألم المرض ما كان الناس يشكرون على الصحة التي هى تاج على رؤوس الأصحاء لا يشعر به إلا المرضى. ولولا آلام القيود، ما كان الناس يشكرون على الحرية والراحة. ولولا آلام الضيق، ما كان البعض يشكر على أيام الفرج. ولولا وجع الألم، ما كنا نشكر على عدم الألم.