"البابا شنودة".. ورحلة من الحب والعطاء والحكمة
احتفلت الكنيسة القبطية الأرثوذكسية أول أمس بعيد ميلاد قداسة "البابا شنودة" الثالث الـ 87، هذا الرجل الذي سلك طريق الرهبنة منذ 56 عامـًا تاركـًا العالم، وشاءت الإرادة الإلهية أن توضع على عاتقه مسئولية الكنيسة، وهذه المسئولية تحمّلها باقتدار، وكانت له العديد من المواقف والأفكار في الكثير من القضايا الهامة الاجتماعية منها والسياسية، هذه المواقف هي التي تركت انطباعات جيدة جدًا على مر السنين لدى الكثير من المفكرين والكتّاب والصحفيين والسياسيين سواء في مصر أو خارجها.
وُلد الطفل "نظير جي" -يتيم الأم- في 3 أغسطس من عام 1923، في قرية "سلاّم" بمحافظة أسيوط، ولعل قيام جميع سيدات القرية بإرضاعه خلق بداخله حبـًا لجميع الناس، وقرر والده أن يلحقه بمدرسة في القاهرة، واستمر "نظير" يتقدم في دراسته إلى أن حصل على ليسانس الآداب عام 1947 بدرجة امتياز، ولكن نفسه الطواقة إلى الأمور الروحية جعلته يلتحق بالكلية الإكليريكية، ويترك وظيفته كمدرس ويتفرغ للدراسات الدينية، ورأس تحرير مجلة "مدارس الأحد"، إلى أن تمت سيامته راهبـًا في "دير السريان العامر" عام 1954 باسم الراهب "أنطونيوس السرياني".
وبعد أن قرر أن يعيش حياة الوحدة في البرية، جاء اختيار المتنيح "البابا كيرلس" السادس له كسكرتير لقداسته، ثم سيامته أسقفـًا للتعليم والكلية الإكليريكية باسم "الأنبا شنودة" في عام 1962، وبعد اقل من عشر سنوات اختارته القرعة الهيكلية لتعلن إرادة السماء أن يكون هو "البابا شنودة" الثالث؛ بابا الإسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية، وكان ذلك في عام 1971.
جوائز في التسامح الديني والحوار وحقوق الإنسان
أشارالصحفي "محمود فوزي" -صاحب أكثر الحوارات الصحفية مع "البابا شنودة" في كتابه "البابا شنودة وتاريخ الكنيسة القبطية" في عام 1991 إلى أن قداسته رغم أنه اختلف مع الرئيس "السادات" ذات يوم، واعتكف في ديره لسنوات، لكنه لم يعكس أثر ذلك على أحد، حتى الذين اختلفوا معه لم يتخذ أي إجراء كنسي ضدهم، فهذا الرجل قلبه يتسع لكل آلام البشر، وسعة أفقه تتسع عما يراه من أفاق، فهذا الحب والتسامح الذي تميز به "البابا شنودة" هو الذي جعله يحصل على ثلاثة جوائز في التسامح الديني والحوار وحقوق الإنسان وهم: "جائزة الأمم المتحدة للتسامح الديني"، و"جائزة اليونسكو للحوار والتسامح الديني"، و"جائزة القذافي لحقوق الإنسان"، والتي تقدر بـ 750 ألف دولار، والتي كان أول مَن حصل عليها الزعيم الأفريقي "نيلسون مانديلا".
"بابا العرب".. ومواقف وطنية لا تُنسى
ومن المواقف التي تدل على حكمة "البابا شنودة" ما قاله في موضوع "بابا روما" وتوقيعه على وثيقة الكاثوليك التي أساءت إلى البروتستانت والأرثوذكس؛ فنراه يقول بأن الرجل يكسب أعداءًا في كل مرة، ففي تصريحات سابقة خسر المسلمون جميعـًا، ثم في هذه المرة خسر كثير من الطوائف المسيحية، وأنا متعجب من هذا؛ فالسيد "المسيح" لم يفعل ذلك.. بل كان يحاول كسب كل الناس بالحب وليس خسارتهم، هذا إلى جانب موقفه من قضية فلسطين.
فهو أول مَن أصدر في عام 1976 كتابـًا بعنوان: "إسرائيل ليست شعب الله المختار"، كما أنه أعلن بصوت جهوري أنه يرفض التطبيع مع إسرائيل، وأصدر بيانه الشهير بتحريم شعب الكنيسة من زيارة القدس كنوع من الاحتجاج ضد إسرائيل، وليس بسبب نزاع خاص بين الكنيسة المصرية والسلطات الإسرائيلية على "دير السلطان".
وفي مقابل تلك الوطنية تم عزله في الدير لسنوات، ولكن بسبب مواقفه القوية والحكيمة والوطنية عندما ذهب إلى لبنان أعلن "حزب الله" بأن قداسته هو "بابا العرب"، وأُلقيت الخُطب في تكريمه وتعداد مواقفه العربية والوطنية.
حماية مصر من الحروب الأهلية
وتميز "البابا شنودة" بالكثير من الحكمة والمواقف الوطنية في أصعب الأزمات التي تعكس حرصه الشديد على رباطات التآخي والمحبة بين أبناء الوطن، فاستطاع "البابا شنودة" ببعد نظره أن ينفتح على الدوائر السياسية والإعلامية، حيث خرج بالكنيسة من خلف الأسوار المغلقة محدثـًا ثورة هائلة من الانفتاح والتعامل مع قضايا مصر والعالم، كما أنه قام بالعديد من الإنجازات منها تعمير الأديرة المهجورة، وتنمية الأديرة العامرة، واهتمامه بأبنائه في المهجر والعناية بهم في الغربة، وتدشين العديد من الكنائس في مصر وخارجها.
ومن مواقفه التي لا تُنسى رفضه لقانون الاضطهاد الدينى الذي قدمته لجنة العلاقات الخارجية لمجلس الكونجرس الأمريكي، وأكد بأن أي قبطي لا يقبل أن تُفرض عقوبات على مصر، كما أنه لم يخرج من فمه الطاهر في يوم من الأيام مفردات تدل على الطائفية، ولعل هذا ما حمى مصر من مصير مهلك من الحروب الأهلية، وعندما سمع تصريحات "مصطفى مشهور" -المرشد العام للإخوان المسلمين- بضرورة دفع الأقباط الجزية واستبعادهم من الجيش، كان رد فعله هادئـًا تمامـًا كعادته، حيث وصف هذه التصريحات بأنها رِدة وإساءة لبلدنا، واعتبر مَن يدعو لذلك بأنه يسيئ إلى مصر ويعمد إلى وصمها بممارسة التفرقة العنصرية.