mifa20014 قلب المنتدى الطيب
عدد الرسائل : 31565 العمر : 52 تاريخ التسجيل : 08/05/2007
| موضوع: مرثا العاملة ومريم المتأمَّلة الأحد 19 سبتمبر 2010 - 15:20 | |
| مرثا العاملة ومريم المتأمَّلة
إن كان السيِّد المسيح في كل يوم يحمل الجرحى على كتفيه كالسامري الصالح ليدخل بهم إلى كنيسته – الفندق السماوي - مقدِّما لهم الروح القدس (الدينارين) يسندهم ويعولهم حتى يرجع إليهم في مجئيه الأخير، فماذا يفعل هؤلاء الداخلون إلى الكنيسة؟ هذا ما تجيب عليه قصَّة لقاء مرثا ومريم بالسيِّد المسيح في قرية بيت عنيا.
قلنا أن بيت عنيا تعني "بيت الطاعة" أو "بيت العناء"، وكأنه في الكنيسة حيث يمتثل الأعضاء بالطاعة لله، محتملين كل عناء كشركة آلام مع المخلِّص، يعمل الكل كمرثا مجاهدين، ويجلسون معه يسمعون صوته ويتأمَّلون أسراره كمريم، وما نوَد أن نؤكِّده هنا أنه وإن مثَّلت مريم جماعة العاملين في الكنيسة خاصة الخدَّام ومريم وجماعة المتأمِّلين، فإن المسيحي يحمل في قلبه فكر مرثا ملتحمًا بفكر مريم، فلا جهاد حق خارج حياة التأمُّل، ولا حياة تأمُّل صادقة بلا عمل! حقًا لكل عضو موهبته، فمن الأعضاء من يحمل طاقة عمل قويَّة قادرة على الحركة في الرب على الدوام. ومنهم من يحب الهدوء والسكون ليحيا في عبادة وتأمُّل. ولكن يلزم على الأول وسط جهاده أن يتمتَّع بنصيب من الحياة التأمُّليَّة اليوميَّة حتى لا ينحرف في جهاده، ويليق بالثاني أن يُمارس محبَّته عمليًا بالجهاد، إن لم يكن في خدمة منظورة، فبالصلاة على لسان الكنيسة كلها بل ومن أجل العالم كله.
أوَد أن أترك الحديث عن الحياة العاملة والحياة المتأمِّلة في كتاب خاص، إنما اَكتفي هنا بتقديم مقتطفات لبعض الآباء في هذا الشأن:
v صالح هو ما فعلته مرثا بخدمتها للقدِّيسين، لكن الأفضل هو ما فعلته أختها مريم بجلوسها عند قدَّميْ الرب واستماعها كلمته[359]
v كانت مرثا ومريم أختين، قريبتين حقًا ليس بالجسد، وإنما أيضًا بالتقوى، كانتا ملتصقتين بالرب، تخدمانه حين كان حاضرًا بالجسد.
استقبلته مريم كما تستضيف الغرباء، كخادمة تستقبل سيِّدها، ومريضة تستقبل مخلِّصها، وكخليقة نحو خالقها. قبلته لتطعمه جسديًا، فتقتات بالروح، لقد سُرّ الرب أن يأخذ شكل العبد (في 2: 7)، لذلك صار الخدَّام يطعمونه، بتنازله سمح لنفسه أن يقوته الآخرون. صار له جسد يجوع حقًا ويعطش، ولكن هل تعلم أنه إذ جاء في البرِّيَّة كانت الملائكة تخدمه (مت 4: 11)؟
هكذا إذ سُر أن يطعمه الآخرون، أظهر لطفًا لمن يطعمه. أي عجب في هذا إذ أظهر ذات اللطف للأرملة التي احتكَّت بإيليَّا القدِّيس، الذي سبق فأعاله الله خلال خدمة غراب (1 مل 17: 6)؟ فهل عجز عن أن يعوله حين أرسله إلى الأرملة؟ لا لم يكن يعجزه السلطان في أن يعوله عندما أرسله إلى الأرملة، لكنه أراد أن يبارك الأرملة التقيَّة خلال خدمتها التقويَّة لخادمه. هكذا أيضًا أُستقبِل الرب كضيف، هذا الذي "جاء إلى خاصته، وخاصته لم تقبله، أما الذين قبلوه فأعطاهم سلطانًا أن يصيروا أولاد الله" (يو 1: 11-12)، متبنِّيًا الخدَّام ليجعل منهم إخوة، ومحرِّرا المسبِّبين ليجعل منهم شركاء في الميراث. ومع ذلك ليته لا يُقل لأحدكم: طوبى للذين نالوا هذه النعمة، واستضافوا المسيح في بيتهم! لا تحزنوا ولا تتذمَّروا لأنكم لم تولدوا في تلك الأوقات لتروا الرب في الجسد، فإنه لا يحرمكم هذه الطوباويَّة، إذ يقول: "بما أنكم فعلتموه بأحد إخوتي هؤلاء الأصاغر فبي فعلتم" (مت 25: 40).
v إذ كانت مرثا تدبِّر الطعام وتعدُّه لتُطعم الرب، كانت منهمكة في الخدمة جدًا، أما مريم أختها فاختارت بالحري أن يطعمها الرب. إنها بطريقة ما تركت أختها المرتبكة بأعمال الخدمة وجلست هي عند قدميْ الرب تسمع كلماته بثبات. لقد سمعت أذنها الأمينة: "كفُّوا واعلموا إني أنا الله" (مز 46: 10).
مرثا ارتبكت أما مريم فكانت متمتِّعة (محتفلة)؛ واحدة كانت تدبِّر أمور كثيرة، والأخرى ركَّزت عينيها على الواحد[360]
v صالحة هي الخدمات التي تقدَّم للفقراء، خاصة الخدمات الضروريَّة والأعمال الورعة التي تقدَّم لقدِّيسي الله... ولكن الأفضل منه هو ما اختارت مريم أن تفعله. فإن الأعمال الأولى لها متاعب كثيرة تمارس بسبب الضرورة، أما الثانية فلها عذوبتها تمارس بالمحبَّة.
لو أن مرثا قد تمتَّعت بالشبع خلال ممارسة هذه الأعمال لما طلبت معونة أختها. هذه الأعمال متعدِّدة ومتنوِّعة إذ هي أعمال جسدانيَّة مؤقَّتة. حقًا إنها أعمال صالحة، لكنها زائلة. لكن ماذا قال الرب لمرثا؟ "مريم اختارت النصيب الصالح". لستِ أنتِ شرِّيرة، إنما هي أفضل. اسمعي، لماذا هي أفضل؟ "لن ينزع عنها" في وقت أو آخر ثِقَل الواجبات الضروريَّة يُنزع عنك، أما عذوبة الحق فأبديَّة... أنه لن ينزع منها، لا بل يزداد. في هذه الحياة يزداد لها، وفي الحياة الأخرى يكمل لها ولا ينزع عنها[361]
v كانت مرثا تهتم أن تُطعم الرب، وأما مريم فاهتمت أن يُطعمها الرب. بواسطة مرثا أُعدَّت الوليمة للرب، هذه الوليمة التي ابتهجت فيها مريم[362]
v أقول أنه في هاتين الامرأتين مُثِّلت الحياتين: الحياة الحاضرة والحياة العتيدة؛ حياة الجهاد وحياة الراحة؛ حياة الحزن وحياة الطوباويَّة؛ الحياة الزمنيَّة والحياة الأبديَّة...
ماذا تحمل هذه الحياة؟ لست أتكلَّم عن حياة شرِّيرة، رديئة، خبيثة، مترَفة جاحدة، بل هي حياة جهاد مملوءة آلامًا، ومخاوف، تُفقدها التجارب سلامها... وأقول أن الحياتين غير ضارِّتين، بل ومستحقَّتان المديح، لكن واحدة مملوءة تعبًا والأخرى سهلة...
في مرثا نجد صورة للأمور الحاضرة، وفي مريم الأمور العتيدة.
ما تفعله مرثا نفعله نحن الآن، ما تفعله مريم نترجَّاه لنفعل العمل الأول حسنًا فننال الثاني كاملاً[363]
القدِّيس أغسطينوس
v كوني كمريم تفضِّلين طعام النفس عن طعام الجسد.
اتركي أخواتك يجرين هنا وهناك ليدبِّرن بلياقة كيف يستضيفن المسيح، أما أنتِ فإذ تتركي ثِقل العالم اجلسي عند قدميْ الرب، وقولي له: "وجدت من تحبُّه نفسي، فأمسكتُه ولم أرْخه" (نش 3: 4)[364]
القدِّيس جيروم
v يأمر الرب أن يترك (الإنسان) حياته المرتبكة ويلتصق بالواحد، يقترب من نعمة ذاك الذي يقدِّم الحياة الأبديَّة[365]
القدِّيس إكليمنضس السكندري
v الخير الأعظم لا يكمن في الأعمال في ذاتها مهما بلغ شأنها، وإنما في التأمَّل في الرب، الذي هو بالحقيقة هو "الأمر الواحد"... أما قوله "لا ينزع عنها"، فقد كشف أن نصيب الأخرى يمكن أن يُنزع عنها، لأن الخدمات الجسديَّة لا يمكن أن تبقى مع الإنسان أبديًا، أمًا اشتياق مريم فلن يكون له نهاية[366]
الأب موسى
v جاهدت الأولى في الخدمة العاملة، واهتمَّت الأخرى بالعمل الروحي بكلمة الله.
اختارت مريم النصيب الصالح الذي لم ينزع عنها، فليتنا نجاهد نحن أيضًا ليكون لنا ما لا يستطيع العدًو أن ينزعه عنَّا، لتكن لنا الأذن الصاغية غير الشاردة، لأن بذار الكلمة الإلهيَّة معرَّضة للسرقة إن سقطت على الطريق (لو 8: 5، 12).
لنتمثَِّل بمريم التي تاقت إلى الامتلاء بالحكمة، وهذا هو عمل أعظم وأكمل يليق بنا ألا تعوقنا الاهتمامات اليوميَّة عن معرفة الكلمة السماويَّة...
لا يعيب الرب على مرثا أعمالها الصالحة، لكنه يفضل عليها مريم لأنها اختارت النصيب الصالح، فعند يسوع توجد كنوز الغنى وهو كريم في عطاياه الوفيرة، لذا اختارت الحكمة الأساسي. هكذا لم يترك الرسل كلمة الله ليخدموا الموائد (أع 6: 2).
أساس العمليَّة "الحكمة"، فقد كان استفانوس مملوء حكمة وقد اُختير للخدمة... جسد الكنيسة واحد وإن اختلفت الأعضاء، وكل منهم يحتاج إلى الآخر، "لا تقدر العين أن تقول لليد لا حاجة لي إليك، أو الرأس أيضًا للرجلين" (1 كو 12: 21)، ولا تستطيع الأذن أن تنكر أنها من الجسد، فإن وُجِدت أعضاء أساسيَّة لكن الأخرى لها أهميَّتها. فالحكمة موضعها الرأس، والعمل يقوم به اليدان، لأن أعين الحكيم في رأسه (جا 2: 14). فالحكيم الحقيقي هو من له فكر المسيح، ويرتفع ببصيرته الروحيَّة إلى الأعالي، لذا عينا الحكيم في رأسه والجاهل في كفِّه[367].
القمص تادرس يعقوب ملطي القدِّيس أمبروسيوس | |
|