بقلم: نيافة الأنبا موسى
من أجمل الحقائق فى المسيحية أنها لا تحاول طمس معالم الشخصية الإنسانية، أيا كان نمطها، بل أن نعمة الله تعمل فى أى نمط، لتخرج منه فوائد ومزايا وبركات كثيرة، سواء لصاحب هذه الشخصية، أو لأسرته، وكنيسته، ووطنه.
فالروح القدس الذى حل على التلاميذ فى العلية فى صورة ريح عاصف، شمل الكل، تأكيداً لوحدة جسد المسيح، سرعان ما حل فى صورة ألسنة نارية منقسمة على كل واحد منهم تأكيد للتفرد والتمايز والخصوصية.
إن الله لا يشاء مطلقاً أن يخلق من البشر نسخاً كربونية، بل يسعد أن يتعامل مع كل نفس على حدة، وكفنان حكيم، ومهندس مقتدر، يستطيع أن يجعل من كل نفس، أيقونة جميلة، تعبر عن براعة صانعها.
إذن فلتكن الشخصية من أى نمط كان، والرب قادر أن يقدس هذه الشخصية، ويبارك هذا النمط، ليصنع منه شيئاً مباركاً ومثمراً.
وكما لا يحق لخادم الشباب أن يحاول طبع نمطه الخاص على مخدوميه، لا يحق لأى إنسان، أن يكره نمط شخصيته، ويتمنى نمطاً آخر لنفسه، فهذا بلا شك يعبر عن عدم فهم لما يتسم به كل نمط من قدرات ومؤهلات ومزايا، تحتاجها الجماعة كلها، سواء كانت الكنيسة أم المجتمع.
أنماط الشخصية :
هناك أساليب متعددة لتقسيم أنماط الشخصية، ونورد هنا تقيمين كمجرد مثال:
أ- التقسيم الأول (حسب النشاط السائد) :
يقسم الشخصية الإنسانية إلى ثلاثة أنماط، حسب النشاط السائد لدى الإنسان، ما بين إدراك، ووجدان، ونزوع، فنجد:
1- الشخصية العقلانية :
وتتسم بالنشاط العقلى سائداً عليها، فهى لا تكف عن الدراسة والبحث والتحليل، ولذلك فهى شخصية تحبّ القراءة والثقافة والدراسة. عواطفها عموماً هادئة. وتهتم بإجراء تحليلات ودراسات عميقة، سواء فى الحياة الإنسانية الفردية، أو حياة المجموعات، أو الوطن على اتساعه. أنها شخصية المفكر والمثقف والعالم المتخصص.
2- الشخصية الوجدانية :
وتتسم بالنشاط العاطفى سائداً عليها، فهى شخصية محبة ودودة، قادرة على صنع علاقات طيبة وكثيرة مع كثيرين، سواء فى مجالها الأسرى أو الكنسى أو المجتمعى. إنها الشخصية المحبة والمحبوبة من كثيرين، ذات المشاعر المتدفقة، والعواطف الدافئة، والصداقات الكثيرة... أنها شخصية التواصل مع الآخر، بمحبة بناءة.
3- الشخصية النزوعية (الحركية) :
وتتسم بالنشاط الحركى سائداً عليها، فهى شخصية لا تكف عن الحركة والنشاط، ولا تطيق السكون. إنها شخصية الرحلات والحفلات والإداريات والمعارض. إنها الشخصية القادرة على تنفيذ ومتابعة مشروعات مختلفة ميدانية... وهى أساسية فى خدمة الكنيسة والمجتمع.. أنها شخصية الأنشطة المفيدة.
ب- التقسيم الثانى (حسب السمات السائدة) :
ويرتبط بالسمات السائدة لدى الإنسان، فهناك:
1- الشخصية القيادية :
وتتمتع بإرادة قوية، وثقة فى النفس. وهى قادرة على قيادة الآخرين، إذ أن لها إمكانية الرؤيا الواضحة، والعزيمة والنشاط. تسيطر على عواطفها، وتستقل بذاتها، وتميل إلى العمل القيادى، ولديها قدرة تحريك مجموعات وطاقات فى اتجاه أعمال منتجة ومقدسة.
2- الشخصية الاجتماعية :
وتتمتع بالحيوية والانبساط، وسرعة تكوين علاقات ودية مع الناس. لها أصدقاء كثيرون. متحمسة ومرحة وعطوفة. تميل إلى تكوين صداقات وعلاقات داخل المجتمع، وتشترك فى الأحزاب والجمعيات واتحادات الطلاب..
3- الشخصية الباحثة عن الكمال :
وهى رقيقة وحساسة، مفكرة وخلاقة، تبحث عن الكمال، وما هو أفضل باستمرار. كثيرة المحاسبة لنفسها، منظمة، تقوم بإجراء تحليلات للأمور وتدقق فى التفاصيل، مخلصة، وتتحمل المسئولية. أنها الشخصية التى ترتفع بنفسها وبالغير إلى مستويات افضل.
4- الشخصية الهادئة :
تتمتع بالهدوء، إذ تضبط عواطفها وانفعالاتها وردود أفعالها، وفيها كفاءة وانضباط، منظمة، وعملية، مخلصة، ومرحة، تستمع باهتمام للآخرين، وفيها قدر جيد من الموضوعية، وهدوء الأعصاب، مع سلام داخلى رصين، لا تهتز بسهولة لأى مثير خارجى.
عمل النعمة فى الشخصية الإنسانية :
إن روح الله القدوس، قادر على "تعميد" الشخصية أيا كان نمطها.. فلا توجد هناك "شخصية روحية محضة" بل هناك "تقديس لكل نمط من أنماط الشخصية".. أى أن المطلوب هو "روحنة" كل أنماط الشخصية، لتصير مقدسة ومثمرة فى كرم الرب، فمثلاً:
1- الشخصية العقلانية :
هى القادرة - بنعمة الله - على إجراء دراسات وبحوث روحية وكنسية وكتابية، ولا تكف عن دراسة الكتاب المقدس، والقراءات الكنسية، وعلوم الكنيسة المختلفة كاللاهوت بأفرعه العديدة: النظرى والأدبى والمقارن.. والعقيدة والتاريخ والطقس.. الخ.
ولا شك أن الكنيسة بحاجة إلى هؤلاء الباحثين فى بطون الكتب، لتستوعب تراثها، وتواجه عصرها بناء على دراسات جادة. كما أن الكنيسة فى حاجة إليهم، ليدرسوا مستجدات العصر من فلسفة وتربية وعلم نفسى واجتماع وطب وهندسة وفلك.. لتستطيع الكنيسة رسم موقفها من قضايا العصر الجديدة مثل: ارتياد الفضاء، وزراعة الأعضاء والهندسة الوراثية، والمخدرات، والإيدز، وأطفال الأنابيب.. هذه كلها تحتاج إلى دراسات ودارسين.. وخير من يقوم بها الشخصيات العقلانية.
2- الشخصية الوجدانية :
لها دورها الهام والمؤثر فى الافتقاد والخدمة الفردية، وتحريك المجموعات والاجتماعات فى اتجاه بناء ومقدس، بما تتسم به من علاقات جيدة مع المخدومين.
كذلك تستطيع الشخصيات الوجدانية إقامة جسور المحبة والتعاون بين الكنيسة والمجتمع، حتى لا تحيا الكنيسة فى عزلة عما يدور حولها، بل بالعكس - يكون لها دور مشارك وناقد ومؤثر فى حركة الحياة.
إن لمسات المحبة الشخصية مفاتيح أساسية لقلوب البشر، "فالمحبة قوية كالموت" (نش 6:8)، "والمحبة لا تسقط أبداً" (1كو 1:13).
3- الشخصية النزوعية :
لها دورها الذى لا يمكن تجاهله، فى تنظيم المؤتمرات والاحتفالات والمعارض وأوجه النشاط الكنسى المختلفة، على مستوى الفصل، والكنيسة المحلية، والكنيسة العامة، والانتماء الوطنى.
أنها الشخصية المتحركة، المنتشرة، القادرة على الإدارة والتنظيم والتجميع، وإخراج المناسبات والنشاطات المختلفة فى صورة جيدة، إذ تهتم بإداريات العمل من كل جهة.
4- الشخصية القيادية :
يستخدمها روح الله، حينما يملأها ويعمل فيها بنعمته، لتقود الخدمة داخل الكنيسة، ولتشهد للناس خارج الكنيسة. والقيادة شئ جوهرى فى العمل والخدمة، فبدون قيادة واعية، ذات رؤية سليمة، يتعب الشعب، بل ربما يهلك كثيرون. وإذا أعطى الرب قدرات قيادية لأشخاص محددين، واختار من بينهم القيادات الكنسية فى رتب الكنيسة المتنوعة، بدءاً من قداسة البابا إلى الأساقفة والكهنة وأمناء وأمينات الخدمة... فلا شك أن دورهم القيادى له الأثر الفعال فى نمو الخدمة، وتشجيع نفوس كثيرة على العمل فى حقل الرب، وعلى الإسهام فى بناء المجتمع.
5- الشخصية الاجتماعية :
وهى التى يمكن أن يستخدمها الرب فى ضم البعيدين إلى الحظيرة، والدخول بهم إلى حياة روحية مقدسة، واكتشاف ما أعطاهم الرب من وزنات ومواهب وطاقات، يمكن أن تتحول إلى لبنات أساسية فى بناء الملكوت. وهى التى تساعد فى افتقاد النفوس، وتماسك الأسرة المسيحية، وإجراء مصالحات وعلاقات محبة ومودة مع سائر المواطنين.. وكلها أمور هامة تحتاج إلى طراز معين من الشخصيات الاجتماعية ذات التأثير.
6- الشخصية الباحثة عن الكمال :
لاشك أنها - فى يدى الروح القدس - لها دورها الهام فى الوصول بالنفوس إلى الكمال المسيحى، وكذلك فى مراجعة برامج ووسائل ومناهج الخدمة، حتى نصل بها إلى الكمال. كما أنها قادرة - بروح الله - على تقديم صورة طيبة للمسيحية الحقة، سواء داخل الأسرة أو الكنيسة أو المجتمع. أنها الشخصية التى لا ترضى بالنقص، وتسعى نحو الكمال، فى الفضيلة والخدمة والدراسات، وذلك طبعاً بنعمة الله.
7- الشخصية الهادئة :
أنموذج حلو، بين يدى الرب، فى عالم مضطرب وصاخب، ملئ بالضجيج والتوترات والمشاكل، إذ أن هذا النوع من الشخصيات يكون مفعماً بالإيمان، والثقة فى وعود الرب، وقادراً أن ينقل هدوءه وصفاءه النفسى إلى الآخرين، فيكون سبباً لراحة نفوس كثيرة، إذ يعطيها - من لدن الرب - جرعة إيمان، تزيل مخاوفها، وتهدئ روعها، وتمنحها قدرة الرؤيا المستقبلية، والتحرك الإيجابى من أجل العثور على حلول للمشاكل المطروحة فى الحياة اليومية.
إذن، فليكن نمط الشخصية ما يكون، المهم أن يمسحه الروح القدس بمسحة مقدسة، ويستخدمه الرب لمجد اسمه، وامتداد ملكوته. فليفرح كل منا بعطايا الرب، وقدرة روح الله اللانهائية، فى تقديس الإنسان، واستثمار طاقاته ووزناته ومواهبه، أياً كان نوع شخصيته، لمجد اسمه القدوس... ولتشملنا نعمة الرب جميعاً.