تسبحة العذراء
إذ انطلق لسان اليصابات يطوِّب العذراء لأنها آمنت بالمواعيد، وحملت كلمة الله في أحشائها،انطلق أيضًا لسان العذراء بالتسبيحلله. وهكذا تحوّل اللقاءإلي مُمارسة لحياة تعبُّديّة على مستوى تسبيحي ملائكي، يمجِّد الله ويُعلن أسراره الفائقة بفرح.
"فقالت مريم: تعظِّم نفس الرب،
وتبتهج روحي بالله مخلِّصي"[46-47].
يقول العلامة أوريجينوس: [قبل ميلاد يوحنا تنبَّأت اليصابات، وقبل ميلاد الرب مخلِّصنا تنبَّأت مريم. وكما بدأت الخطيّة بالمرأة ثم بلغتإلي الرجل، هكذا بدأ الخلاص في العالم بواسطة نساء العالم، تغلَّبْن على ضعف جنسهن. لننظر الآن نبوَّة العذراء وهي تقول: "تُعظِّم نفسي الرب وتبتهج روحي بالله مخلِّصي"، فإنَّ النفس والروح يشتركان في التعظيم[73].]
لقد أساءت حواء إلى خالقها حين شوَّهت روحها بالعصيان، وأفسدت خليقة الله الصالحة، فلم تعد حياتها تمجّد الخالق ولاأعماقها تُعلن عن بهائه. وقد جاءت القدّيسة مريم تحمل كلمة الله في أحشائها، يردّ لنفسها جمالها الأول، وتصير روحها مبتهجة بكونها صورة الله ومثاله.
يقول العلامة أوريجينوس: [يحدّث تساؤل: كيف تعظِّم نفسي الرب؟ حقًا إن كان الرب لا يقبل الزيادة ولا النقصان إنما بلا تغيير،فإلى أي مدى يمكن لمريم أن تقول هذا؟: "تعظِّم نفسي الرب"؟... كلما كبرت صورة (المسيح فيَّ) وصارت بهيّة بأعمالي وأفكاري وأقوالي، تكون قد كبرت صورة الرب وتمجّد... وكما أن صورة الرب تزداد بهاءً فينا، فإنَّنا إذ نخطئ تصغر الصورة وتبهت[74]...]
أما قول العذراء "تبتهج روحي بالله مخلِّصي" فيحمل مفهومًا لاهوتيًا هامًا أن القدّيسة مريممع سموِّها العظيم تحتاج إلى "الخلاص" كسائر البشر،وتبتهج به، إذ وُلدت تحمل الخطيّة الأصليّة (الجديّة) التي ورثناها عن أبوينا الأوَّلين. لقد أدركت القدّيسة سّر تمتُّعها بالنعمة الإلهيّة، إذ قالت: "نظر إلى تواضع أمته". لم تقل أن الله نظر إلى صلواتها أو أصوامها أو سهرها أو عدلها أوحكمتها، لكنة "نظر إلىتواضع أَمَتِه". لقد عرفت الطريق الذي به تنطلق إلى مراحم الله وتغتصب عطاياه وهو "التواضع". فإن كان عدو الخير قد فقد مركزه خلال الكبرياء، فقد جعل الكبرياء فخًا يقتنص به كل بشر إلى ملكوت ظلمته، حارمًا إيَّاه من خالقه مصدر حياته وعلَّة بهجته.
"فهوذا منذ الآن جميع الأجيال تطوِّبني، لأن القدير صنع بي عظائم واسمه قدِّوس، ورحمته إلى جيل الأجيال للذين يتَّقونه"[48-50]. لقد أدركت القدّيسة مريم عظمة العطيّة التي نالتها إذ تمتَّعت بواهِب العطايا نفسه، تحمله في أحشائها، لذا جميع الأجيال (جميع المؤمنين عبر العصور) يطوِّبونها من أجل عمل الله معها. وها هي الكنيسة قدامتلأت ليتورجياَّتها بتطويبها، مُعلنه عمل الله فيها ومعها بتجسُّد الكلمة مخلِّص العالم.
إننا نطوِّبها عبر العصور، لا كعذراءٍ عاشت ثم ماتت، وإنما كعذراء تجلّى في حياتها عمل الله الخلاصي الفائق. فكل مؤمن يتطلَّع إليها فيرى فيها نعمة الله الفائقة التي وُهبت للبشريّة. إن كانت العذراء قد تمتَّعت بأمومة للسيِّد المسيح إذ حملته متجسِّدا في أحشائها كما حملته بالإيمان في قلبها، فإنَّ النفس التي تتمتَّع بالشركة مع الله تنعم أيضًا بنوع من الأمومة، لذلك يقول الأب ميثودوسيوس: [الكنيسة في حالة تمخُّض إلى أن يتشكَّل المسيح ويولد داخلنا. فكل قدّيس يتمتَّع بشركة مع المسيح كأنما يولد المسيح فيه من جديد[75]!]
ويقول القدّيس أمبروسيوس: [احرص أن تتمِّم مشيئة الآب لكي تكون أُمًا للمسيح (مر 3: 35)[76].]
يعلِّق القدّيس كيرلس الكبير على بقيّة تسبحة العذراء، قائلاً: [صنع قوّة بذراعه، شتَّت المستكبرين بفكر قلوبهم"[51]:
[تشير مريم "بالذراع"إلى الرب يسوع المسيح الذي ولدَته، "وبالمستكبرين"إلى إبليس وجنوده الذين أغواهم الكبرياء فسقطوا في حضيض الذُل والمسكَنة، بل وتشير مريم أيضًا بالمستكبرين إلى حكماء الإغريق الذين أبوا أن يقبلوا جهالة المسيحيّة كمااِدَّعوا، وإلى جمهور اليهود الذين لم يؤمنوا بيسوع المسيح فتفرَّقوا في أطراف الأرض.
أنزل المسيح الأعزَّاء عن الكراسي، فقد تضعضع سلطان إبليس وجنوده فلم يعودوا يملكون العالم بأن يحفظوا في أسرهم جمهور الجنس البشري. وسقط الكتبة والفرِّيسيُّون اليهود من مجدهم العالي، لأنهم تكبَّروا عن قبول السيِّد المسيح.
"أنزل الأعزاء عن الكراسي، ورفع المتَّضعين" [52].
غرق جنود إبليس وحكماء الإغريق وكتبة اليهود وفرِّيسوهم في بحر العظمة الفارغة والخيلاء الكاذبة، فأذلَّهم الله ورفع عليهم قومًااِتَّضعت قلوبهم وخلُصت ضمائرهم، فقد أُعطوا"سلطانًا ليدوسوا الحيَّات والعقارب وكل قوّة العدو ولا يضرُّهم شيء" (لو 10: 19)، ولا تؤثِّر فينا المؤامرات الدنيئة التي يحرِّك أطرافها أولئك المتكبِّرون الغادرون.
ألم تكن لليهود يومًا ما دولة واسعة الأطراف، ونظرًا لعدم إيمانهم انكمشوا حيث هم الآن، أما الأمم فقد ساعدهم إيمانهم على تبوُّء منزلة عالية ومكانة سامية.
"أشبع الجياع خيرات، وصرف الأغنياء فارغين" [53].
يقصد بالجياع الجُبْلة البشريّة، فإنَّ جميع الناس ماعدا اليهود أعوزهم مجد الله، وذاقوا مرارة الجوع. لم يكن هناك من بين الناس سوى اليهود الذيناستمتعوا بلذَّة الناموس، وتثقَّفت عقولهم بتعاليم الرسل والأنبياء، إذ "لهم التبنِّي والمجد والعهود والمواعيد" (رو 9: 4). ولكن قادهم غرورهم إلى هاوية الشموخ والكبرياء، فرفضوا السجود للإله المتجسِّد، فلا عجب أن عادوا بلا إيمان ولا علم ولا رجاء ولا نعمة، فقد نُبذوا من أورشليم الأرضيّة، وطُردوا من حياة المجد والنعمة التي ظهرت، لأنهم لم يقبلوا سلطان الحياة وصلبوا رب المجد، وهجروا ينبوع الماء الحّي، ولم يقدِّروا قيمة الخبز الحّي النازل من السماء. فلا غرابة بعد ذلك إن ذاقوا مرارة جوع لا يضارعه جوع آخر، ويحرق لسانهم عطش دونه أي عطش آخر، لأن جوعهم وعطشهم لم يكونا بماديِّين ملموسين، ولكنهما معنويَّان روحيَّان، أو كما يقول عاموس: "هوذا أيام تأتي يقول السيِّد الرب أُرسل جوعًا في الأرض لا جوعًا للخبز ولا عطشًا للماء بل لاِستماع كلمات الرب" (عا 8: 11).
أما الوثنيُّون الذين آمنوا فكثيرًا ما آلمهم الظمأ الروحي وتملَّك أفئدتهم سلطان البؤس والشقاء، فقد أُشبِعت نفوسهم من دسم الكلمة الإلهيّة وارتوت قلوبهم بالماء الحيّ الشافي، لأنهمقبلوا الرب يسوع المسيح، فحظوا بالمواعيد التي كانت لليهود قبلاً.
"عضَّد إسرائيل فتاة ليذكر رحمة"[54].
لم يُعضَّد إسرائيل حسب الجسد وهو الذي امتاز بالكبرياء والخيلاء، وشمَخ بأنفه معتمدًا على حسَبه ونسبِه، بل عضَّد إسرائيل حسب الروح، ذلك الذي يُقدِّر قيمة هذا الاسم فيعمل على رِفعته وإِكرامه، وذلك بالثقة بالله وبالإيمان بابنه والحصول على نعمهالتبني من الرب يسوع، طبقًا لمواعيد الله مع أنبياء العهد القديم وبطاركته.
وتُشير الآية أيضًا إلى جمهور اليهود بالجسد، وهم أولئك الذين آمنوا بالرب يسوع المسيح، فإنَّ الله جلّ شأنه وعد إبراهيم قائلاً: "ويتبارك في نسلك جميع قبائل الأرض"،لأنه حقًا "ليس يمسك الملائكة بل يمسك نسل إبراهيم"(عب 2: 16)[77].]
أخيرًا إذ أورد التسبحة قال: "فمكثت مريم عندها ثلاثة أشهر، ثم رجعت إلى بيتها" [56].
يعلِّق العلامة أوريجينوس على هذا القول الإنجيلي هكذا: [إن كان حضور مريم عنداليصابات وسلامها لهاكافيان أن يجعلا الجنين يرتكِض مبتهجًا، واليصابات تتنبَّأ بعد أنامتلأت بالروح القدس... إن كان هذا قد تّم في ساعة واحدة، يمكننا أن نتخيَّل التقدَّم العظيم الذي أحرزه يوحنا خلال الثلاثة شهور التي مكثتهم مريم عند اليصابات. فإن كان في لحظة واحدة أو على الفور ركض الطفل في أحشاء أُمه، أو بمعنى آخر قفز متهلَّلاً وامتلأت اليصابات من الروح القدس، أفليس من المعقول أناليصابات ويوحنا قد ازدادا في النمو خلال الثلاثة أشهر، وهما بالقرب من والدة الإله، والمخلِّص نفسه حاضر! في هذه الأشهر الثلاثة كان يوحنا يتقوَّى في حلبة الأبطال، ويُعِّد وهو في بطن أُمه لميلاد عجيب وتثقيف أعجب!... إذ عاش في البريّةإلى أن حان وقت ظهوره لإسرائيل[78].]
بنفس المعنى يقول القدّيس أمبروسيوس: [أيّة قامة في تقديرنا يستطيع أن يبلغها الجنين من وجود مريم في بيته هذه الفترة الطويلة؟!... هكذا كان النبي يأخذ المسحة المقدَّسة ويتهيَّأ للمعركة الكبرى.]
7.ميلاد يوحنا وخِتانه
"وأما اليصابات فتمَّ زمانها لتلد، فولدت ابنًا.
وسمع جيرانها وأقرباؤها أن الرب عظَّم رحمته لها،
ففرحوا معها"[57-58].
إذ تمتَّعت اليصابات بحنان الله ونعمته (يوحنا) في أحشائها وامتلأت بالروح القدس، تُرجِم ذلك عمليًا بظهور الطفل يوحنا في الزمن المحدََّد، الذي فرَّح قلوب الكثيرين. وهكذا يلزمنا نحن أيضًا أن نترجم مانحمله من نِعم إلهيّة في أعماقنا إلى ثمر خارجي يُفرِّح السمائيِّين والأرضيِّين
ميلاد القدّيس يوحنا فرَّح القلوبوأطلقها نحو تمجيد الله ببهجة صادقة. يقول القدّيس أمبروسيوس: [في ميلاد القدّيسين يعِمْ الفرح بين الجميع، إذ هو بركة للكل.]
إذ جاء وقت الختان أرادوا تسميتة "زكريَّا" على اسم والده، أما والدته التيامتلأت من الروح القدس فقالت: "يوحنا"، وزكريَّا نفسه إذ طلب لوحًا من الشمع وكتب الاسم "يوحنا" دوناتِّفاق سابق معامرأته،انفتح لسانه في الحال ليتنبَّأ. وكأنهإذ تسلّم روح الله قيادة الموقف لم يَصر للزوجين زكريَّا واليصابات ثمرًا مشتركًا هو يوحنا، وإنما أيضًا صار لهم الفكر الواحد في الرب.
ويمكننا أيضًا أن نقول حين يتسلَّم روح الرب قيادة حياتنا تنسجم فينا اليصابات مع زكريَّا في الفكر والعمل، أي ينسجم الجسد (اليصابات) مع النفس (زكريَّا) ليعملا معًا بفكرٍ واحدٍ مقدَّسٍ.
الآن إذ تمتَّع زكريَّا بعطيّة الله له "يوحنا"،
"في الحال اِنفتح فمه ولسانه وتكلَّم وبارك الله
فوقع خوف على كل جيرانهم،
وتحدَّث بهذه الأمور جميعها في كل جبل اليهوديّة.
فأودعها جميع السامعين في قلوبهم قائلين:
أترى ماذا يكون هذا الصبي؟!
وكانت يد الرب معه" [64-66].
حينما ننعم بحنان الله ينفتح فمنا الداخلي، وينطق لساننا بتهليل. نبارك الرب لا بكلمات بشريّة إنما بقوّة الله، حتى يقع خوف الله على من هم حولنا. المؤمن الحقيقي خلال تلامسه مع الله يحمل فرحًا وبهجة،ٍ وتتحوّل حياته كلها إلى فم داخلي مسبِّح، هذا التسبيح يهز السمائيِّين طرَبًا ويحطِّم عدو الخير، وكأن قوّة الله تتجلّى فيه.
صار ميلاد يوحنا كرازة، وإن كانت قد بدأت في غموض لكن "يد الرب" أي الابن الكلمة صار مرافقًا له يسنده، إذ ينطلق بهإلى البريَّة، وهناك يعوله ويهتم به حتى يظهر لإسرائيل في الزمن المحدَّد.
تفسير انجيل لوقا
القمص تادرس يعقوب ملطي