لقداسة البابا شنوده الثالث
من طاقات الإنسان: العقل والروح والنَّفس والضمير والإرادة والحواس. وهى تختلف من شخص إلى آخر. بالإضافة إلى ما يمنحه اللَّه من مواهب لكل فرد على حدةٍ. وهذه الطاقات والمواهب قابلة للنمو. أو على الأقل نكتشف قدراتها بالزمن والاحتياج.
«« العقل مثلاً: نحن لم نكتشف بعد كل قدراته. هل كانت الأجيال السابقة تصدق أنه يمكن للعقل البشري أن يخترع سفن الفضاء التي توصل الإنسان إلى القمر فيمشي على سطحه؟! كما يخترع أقماراً صناعية تجول حول العالم، تجمع أخباراً وترسل صوراً!! ومَن كان يتصوَّر أنه كان يمكن للعقل أن يُقدِّم للبشرية كل الاختراعات الحالية في مجال الطب والهندسة وسائر العلوم؟! مثل الكومبيوتر والـ mobile phone، وإمكانية عمل جراحة للجنين في بطن أمه؟! وما زلنا نرى نمواً واضحاً لطاقات العقل تظهر عملياً...
«« وروح الإنسان أيضاً لها طاقات عجيبة لم يدركها كل الناس. فهم لم يكتشفوها لأنهم لم يستخدموها، ولم يدخلوا في التداريب التي تنشط الروح وتفسح لها مجال انطلاقها الطبيعي. وإننا عندما نقرأ عن التداريب الروحية التي تجريها جماعات من الهندوس واليوجا، وما وصلوا إليه من نتائج، نرى عجباً..! إنها ليست معجزات ولا قدرات غير طبيعية. بل هى الطاقة الطبيعية للروح، يكتشفها مَن يحيا بالروح، ومَن يستخدم الروح ويهتم بها...
«« هناك أيضاً طاقات للحواس لم نستخدمها كلها. وذلك لعدم شعورنا بالاحتياج إليها. فهى طاقات تظل كامنة إلى أن تظهر حينما تفقد حاسة مُعيَّنة، فنستعيض عنها بتنشيط حواس أخرى بديلة.
فإنسان مثلاً فقد بصره، ويحاول أن يستعيض عنه بالسمع وباللمس ورُبَّما بالشَّم أيضاً، فتقوى كل هذه الحواس، ويكتشف قدرات لها لم تكن متاحة له من قبل. ولكنها ظهرت لأنه أخذ يُدرِّب هذه الحواس تدريباً دقيقاً لتكون له أبواباً للمعرفة بدلاً من النظر الذي فقده. ولم تكن هكذا من قبل، بل كانت كامنة غير ظاهرة في حالة عدم إستخدامها ... كما نلاحظ أيضاً أن الذي فقد بصره، تقوى ذاكرته، لأنه يستخدمها أكثر من ذي قبل، إذ أن القراءة لم تعد متاحة له. وحتى هذه القراءة نراه يستعيض عنها بطريقة برايل، بتقوية حاسة اللمس.
«« إنَّ الإنسان الكامل: في كمال عقله، وكمال روحه، وكمال حواسه كلها، لم يُوجد بعد في أي إنسان عادي ... وطاقات كل شخص كما تحتاج إلى تداريب لتنمية قدراتها، تحتاج إلى تداريب أخرى حتى لا تضعف بعدم الإستخدام.
«« علينا مثلاً أن نُنمِّي العقل والذاكرة وملكات التفكير التي لنا. وننمي قدراتنا على التفكير السليم والاستنتاج وحل المشاكل. فالمسائل الرياضية والتمارين الهندسية التي كنا ندرسها في المدارس، لم تكن لمُجرَّد العلم أو للتخصُّص في الرياضيات، إنما كانت لها فائدة أخرى في تدريب العقل على التفكير.
مَثَل آخر لهذا التدريب، هو اثنان يلعبان الشطرنج وكل منهما صامت يُفكِّر: ما هى الخطوة التي سيلعبها زميله، وكيف يرد عليها؟ وماذا سيكون رد زميله على رده؟ وكيف يتصرَّف وقتذاك؟ وكيف يمكنه أن يُعرقل خططه؟ وكيف تكون له هو خطط غير مكشوفة توصّله إلى النتيجة المطلوبة ولو بعد مراحل؟ إنه أيضاً تدريب على الذكاء، وليس مُجرَّد لعبة شطرنج للتسلية وقضاء الوقت...
وما أكثر تداريب الذكاء وتنمية التفكير: الألغاز أيضاً وحلّها والمسابقات، كلها تداريب على التفكير. كذلك يمكنك أن تُنمِّي موهبة التفكير في محيط أسرتك وسط أولادك. وعلّمهم أن يواجهوا أيَّة مشكلة بالتفكير وفي غير اضطراب. وفي الحياة العملية توجد تداريب على الحكمة وحُسن التَّصرُّف، أو تنمية الفكر عن طريق المشورة والانتفاع بخبرات الآخرين.
«« الضمير أيضاً يحتاج إلى تنمية. ذلك لأنه يوجد ثلاثة أنواع من الضمائر. منها الضمير الواسع الذي يتساهل مع كثير من الأخطاء، ويُسمِّيها الأخطاء الصغيرة أو البسيطة، فيُمرِّرها ويُبرِّرها!! وهناك الضمير الضيق الذي يظن الخطأ حيث لا يوجد خطأ، أو أنه يضخِّم من قيمة بعض الأخطاء. أمَّا أنت فليكن لك الضمير الصالح، الذي يتميَّز بالفهم السليم، ويعرف كيف يُميِّز بين الخير والشر، وبين ما يجوز وما يليق. ويزن الأمور بميزان دقيق، بلا إفراط ولا تفريط.
ويأتي هذا بالتعلم على ثقاة من المتعمقين في علوم الدين والاجتماع والأخلاق، وداوم التأمُّل بعمق في كلام اللَّه وفي سِيَر الناس الأبرار المشهود لهم، وكذلك بالتأثُّر بالقدوة الصالحة.
«« معارف الإنسان أيضاً تحتاج إلى تنمية، غير النمو الطبيعي في المعرفة خلال مراحل العمر. والذي يهتم بنموه في المعرفة يصير مُثقَّفاً ويستطيع أن يكون عضواً نافعاً في المجتمع. والمعرفة تُغذِّي عقله، وتُغذِّي ضميره، وتقوِّم طباعه، وتدفعه إلى السلوك الصالح. كما أنَّ المعرفة تساعده في طريق الحكمة وحُسن التَّصرُّف، والنجاح في التعامل مع الناس. وإذ نما في المعرفة وفي الخبرة، قد يصل إلى القدرة على الإرشاد وقيادة الغير...
«« إنَّ حياة الإنسان بكل طاقاتها وزنة سلَّمه اللَّه إيَّاها لكي يعتني بها. لذلك يلزمه أن يُنمِّي شخصيته بصفة عامة لتتحوَّل إلى شخصية قوية سوية، سواء في العقل أو الضمير أو المعرفة أو السلوك، أو النفسية السوية، والحكمة في الحكم على سائر الأمور.
فلا تترك شخصيتك إذن، دون ضابط ودون اهتمام ودون نمو...
«« الجسد أيضاً طاقة وهبها اللَّه للإنسان، فهو الجهاز التنفيذي لكل القرارات التي تصدر عن العقل أو الروح أو الإرادة أو الضمير...
وما أسهل أن تؤثِّر أمراض الجسد على النَّفس، فتجلب لها ألواناً من الألم أو الحزن أو الضيق أو التَّذمُّر. وبعض الناس قد يصلون إلى درجات من الإنهيار النفسي بسبب أمراض أجسادهم، أو يصابون بالكآبة والقلق والحيرة بسبب ما تتعرَّض له صحة الجسد من اضطرابات...
كذلك شهوات الجسد تؤثِّر على الضمير وعلى الإرادة، وتحاول أن تستخدم طاقات العقل لتحقيق أغراضها. كما أنَّ شهوة الجسد قد تستأثر الفكر تماماً، فلا يدور إلاَّ في فلكها. وإذا سيطرت فإنها تضعف الروح وتبطل صلتها باللَّه.
«« لهذا كله ينبغي حفظ التوازن بين طاقات الإنسان فتتعاون معاً وتتكامل. ولا يصح أن يوجد تناقض أو تنافس بين الطاقات يؤدِّي إلى صراع داخلي وإنقسام في الشخصية. كما قال أحدهم: " كنت أصارع نفسي وأجاهد، وكأنني اثنان في واحد. هذا يدفعني، وذاك يمنعني "!! نعم ما أسهل أن تتصارع الطاقات: فالجسد يشتهي ضد الروح. والروح ضد الجسد. أو النفس ضد الضمير. أو العقل ضد الإرادة..!
بينما الإنسان السليم السَّوي لا يوجد فيه مثل هذا الصراع. ولا تحاول إحدى طاقاته أن تُسيطر على باقي الطاقات أو بعضها.