يـــــــوم خـــــاص مـــع البابــــــــا

يـــــــوم خـــــاص مـــع البابــــــــــا






بقلم: يوسف القعيد


في السنوات الأولي من ثمانييات القرن الماضي‏.‏ كنت‏-‏ مثل كل أبناء المهنة من‏-‏ أعمل مراسلا لمجلة المستقبل اللبنانية كانت تصدر من باريس‏.‏
رئيس التحرير نبيل خوري كانت لديه رغبة شخصية ومهنية أن أجري لقاء مع البابا شنودة بدير وادي النطرون الذي كان تم تحديد إقامته فيه ضمن اعتقالات سبتمبر81.
كان سؤالي الأول: وكيف الطريق للبابا ؟ عليك بالدكتور فرج فودة فهو الوحيد الذي يمكن أن يحدد الموعد والطريق الآمنه بعيدا عن المتلصصين. سألت نفسي في ظل المناخ الطائفي الذي كان سائدا ومازال عند ديانه فرج فودة. سألت عن اسمه الثلاثي عرفت أنه فرج علي فوده.
أجري فرج فودة اتصالاته من مكتبه الذي إغتيل أمامه بعد ذلك بسنوات. وأنجز كل شيء في حضوري. طلب مني الذهاب إلي منزل مسعد صادق مدير تحرير جريدة وطني. وكان منزله يقع في شارع متفرع من شارع كلوت بيك. ذهب معنا مسعد صادق و شوقي مصطفي عبقري الكاميرا في دار الهلال التي قامت شرعيتها علي صحافة المجلات التي تعتمد أساسا علي الصورة. وانضم إلينا بناء علي طلبه ورغبة الصديق مصطفي نبيل المسكون دائما وأبدا- بنبل الأسئلة.
انطلقت إلي بيت مسعد صادق ومنه لشارع سليمان جوهر بالدقي لنأخذ شوقي مصطفي وانطلقنا إلي المهندسين حيث كان يعيش مصطفي نبيل. أخذنا طريقا مر بنا علي قرية الخطاطبة حتي ندخل الدير عن طريق لايعرفه كثيرون. بعيدا عن الحراسات التي كانت تفتش الرغبات والأماني والأحلام. وصلنا بعد الظهر ومكثنا مع البابا شنودة حتي مابعد نزول الليل في ذلك الدير المغسول بالهدوء المسكون بالصمت وكأنه أخذ إجازة أبدية من صخب الدنيا وضجيجها.
تكلمنا في كل الأمور. لم أكن أريد أن أضع بيني وبينه مسجلا وأن أحول الأمر لسين سؤال و جيم جواب ثم أكتب مقدمة وأستخرج العناوين وبهذا أكون اتممت المهمة. كنت أحب أن نبحر في عالمه ونتعرف عليه.
أصر أن نكون ضيوفه علي غداء أكد لنا قبل أن نمد أيدينا عليه أنه من إنتاج الدير الذي كان يمر بحالة اكتفاء ذاتي لكل من يعيشون فيه. نظر إلي قطع الشيكولاته التي قدمها لنا وقال ضاحكا باستثناء هذه الشيكولاته ولو أمكننا تصنيعها هنا ما أتينا بها من خارج الدير.
كان الدير مصره وبلاده وكل دنياه وقد اختصر الأمور بالنسبة إلي وجوده فيه عندما قال بعربية سليمة: الكرسي البابوي يوجد حيث يوجد البابا والباقي شكليات زائلة. كنت مبهورا ببساطته وصدقه ومصريته علاوه علي أن موقفه المبدئي من كامب ديفيد كان يشجيني قال لي يومها: سنكون آخر من يدخل القدس من العرب بعد رجوع كل العرب إليها سنكون في مواكب العرب العائدين إلي القدس بعد تحريرها من الأحتلال الذي لن يدوم.
في هذا اليوم أحسست أن الجالس معنا ليس بابا شركاء الوطن والمصير ولكنه مواطن مصري يقدم المتوسط الحسابي للشخصية المصرية أو شخصية مصر كما نحت التعبير عبقري الجغرافيا السياسية المصرية جمال حمدان. كان البابا ابن نكتة خفيف الظل حكاء يتذوق مفردات اللغة العربية قبل النطق بها وعند النطق تخرج سليمة الشكل والمحتوي فضلا عن أنه حكاء جميل الحكايات.
حدثته عن وجوده في القوات المسلحة المصرية ومشاركته في حرب فلسطين48 وعن رئاسته لتحرير مجلة مدارس الأحد وعضويته العاملة في نقابة الصحفيين. تضاحك قائلا: ولماذا لم تسألني عن قرض الشعر ؟ كان يكتب الشعر سرا وينشره في أضيق الحدود لانه كان يعتقد أن روحانية دوره ورمزيته في الواقع المصري تحول دون التوسع في نشره
سألني بمصرية صميمة: قلت لي إن المجلة تصدر في باريس؟ إذا سأعطيك بعض القصائد لكي تنشرها في بلاد بره وأعطاني مختارات من شعره نشرناها وكانت المرة الأولي. قال لي يومها إنه يحفظ الكثير جدا من عيون الشعر العربي ولديه منه ما يصلح ان يكون مختارات وحكي أنه قام بتدريس اللغة العربية فترة من الوقت.
عند انصرافنا سار معنا حتي قبل باب الدير بأمتار ثم توقف وسلم علينا مودعا. قائلا إنه لا يريد أن يتقدم لأن هذه هي حدوده. وراء هذا الجدار يوجد العسس توقفت أمام دلالة الكلمة ذات النكهة المملوكية. قلت له ربما كانوا هنا لحماية المكان. سألني: ممن؟ ثم أكمل ربما كان الهدف العسعسة. توقف مثل كل المصريين وحسب فترة إقامته الجبرية في الدير قال لي قضيت هنا أربعين يوما في حكم الرئيس السابق والآن أوشك أن أكمل أربع سنوات.
حول إقامته في الدير لعزلة خصبه إبتعد مكانا فقط عن المصريين واقترب روحا منهم أكثر مما كان في المطرانية بالعباسية. جعلها عزله خلاقه. عزلة مضيئةه. عزلة مبدعة.