بقلم / البابا شنودة الثالث
القساوةمكروهة من الجميع, إلا من القساة أنفسهم. وهي منفرة, ولها نتائجسيئة عديدة. وهي ضد الرحمة والرأفة والرقة, وضد الوداعة والاتضاع.
** ومن مظاهر القساوة: الكلمة القاسية, والنظرة القاسية, والمعاملةالقاسية, والعقوبة القاسية, والتوبيخ القاسي, والعتاب القاسي,وغير ذلك, أي أن القلب القاسي يبسط قساوته علي تصرفاته.
وقدتكون قساوته علي الجسد أو علي النفس أو كليهما وسنحاول في هذا المقال أن نطرق كل هذه الأمور, كما نبين أسباب القساوة ونتائجها.
** غالبا ماتكون القسوة ناتجة من استبداد القوي بالضعيف, والعمل علي قهره, في حين لايستطيع هذا المسكين أن يدافع عن نفسه, أو أن يقاوم بطش القوي!
والعجيبأن هؤلاء القساة لايوبخهم ضميرهم, بل إنهم يعتبرون بطشهم دليلا عليمايتمتعون به من قدرة وقوة! أو أنه دليل علي سلطانهم وسيطرتهم.
** وقد تصدر القسوة في محيط الأسرة, من أب يخطيء في فهم أسلوب التربيةالسليمة, ويظن أن الحزم في تربية أبنائه يعني القسوة عليهم لكي يتأدبوا!! وهكذا يضيق عليهم في كل شيء, ولايعطي لشخصياتهم فرصةللنمو, بل علي العكس يجعلهم يعيشون في جو من الأوامر والنواهي, وفي لون من الحصر النفسي, مما يجعلهم يكرهون البيت الذي يعيش فيه هذا الأب العنيف القاسي, وقد يهربون من قسوته, ملتمسين صدرا حنونا وحضنا دافئايحتويهم, وربما يقودهم ذلك الي الضياع أو الضلال.
** وربما تحدث هذه القسوة من زوج ضد زوجته, باعتباره رب البيت, وله سلطان علي الزوجة, فيهينها ولايعاملها برفق,ولا يشفق عليها في أي تقصير مهما كان غير مقصود, أو ما يعتبره هو تقصيرا حسب وجهة نظره..وبهذا الوضع يختفي الحب من بيت الزوجية, وتحل محله السلطة والنفوذ.وقد تتهدد الحياة الزوجية بالتفكك, والزوج لايبالي. وكل مايهمه أن يحتفظ بمركزه كرجل البيت القوي, الذي كل شيء في نطاق قوته وسلطانه!!
** في بلاد الغرب ـ أمريكا مثلا ـ اذا قسا الرجل علي زوجته أو أولاده,أو إن ضرب أحدا منهم, بإمكانهم أن يطلبوا له البوليس تليفونيا, فيأتي ويقبض عليه ويبيت في الحبس, ويحقق معه. وفي بلاد الشرق يمكن أن تلجأالزوجة الي القضاء وتطالب بالانفصال عن زوجها لسوء معاملاته.. غير أن كثيرا من النساء يقبلن القسوة من الزوج في صبر, باعتباره أبوا لأولاد,وعائل الأسرة وسند البيت, ويعرف الزوج هذه الحقيقة ويستمر في قسوته!
** وأحيانا يقسو أبو الأولاد من زوجته الأولي بسبب من زوجته الحالية التي توغر صدره ضدهم, لأنها لاتحبهم, وقد تصدر القسوة منها مباشرة ضد هؤلاءالصغار, ولذلك يكره الأبناء زوجة الأب ويصفونها بالقسوة.
** نفس الاستبداد بالضعفاء والقسوة عليهم, يحدث في مجال العمل, من مدير قاس ضد موظفين أو مرءوسيه.
وذلك بحكم سلطانه عليهم, وشعوره بالقدرة علي التدخل في مصائرهم. وماأسهل أن يكتب تقارير شديدة ضد بعضهم تسيء اليه, وتستغل بتهديده بالخصم من مرتبه, بل والفصل من وظيفته. ولهذا مايشكو هؤلاء الموظفون من رئيسهم القاسي, أو يتملقونه في جبن حرصا منهم علي بقاء مصدر رزقهم!وخوفا من هذا الإذلال الذي يقاسونه من هذا القاسي, فيهبط مستوي نفسياتهم.
** الرجل النبيل أو الروحاني, يحاول باستمرار أن يخضع نفسه بتداريب منضبط النفس, وبخاصة في حالة الغضب, أما الشخص القاسي فهدفه أن يخضع غيره له, اعتزازا منه بقوته, غير مبال بالمثاليات. ومسكين من يقع فييده, لهذا صدق داود النبي حينما قال أقع في يد الله, لأن مراحمه واسعة, ولاأقع في يد انسان.
** القسوة تحدث أحيانا في مجال العقوبة, حينما تكون فوق الاحتمال,وبعدم النظر الي ظروف المخطيء. وما أكثر مايحدث بطريق غير مباشر, أن تصيب العقوبة أيضا أسرة المخطيء. لأنه هو عائل الأسرة. ومعروف المثل اضرب الراعي, فتتشتت الرعية. لذلك يحسن أن ينظر المجتمع في معاقبةالمخطئين إلي الحالة الاجتماعية وليس إلي مجرد الفرد!
** القسوة كذلك تأخذ مجالها في أجور العاملين, فالرجل الثري الذي يملك المصانع والشركات والمشروعات, وكذلك الغني الذي يحتكر السوق, اذا حدث من هذا أو ذاك أنه أعطي العاملين تحت يده أجورا زهيدة لاتكفي معيشتهم معغلو الأسعار, فهذه بلا شك قسوة منه, وعدم مبالاة بحاجة الآخرينوعوزهم. هؤلاء مذلتهم تصرخ إلي الله, ويصرخ معها كل المهمشين في المجتمع الذين لايجدون رزقا ولا وظيفة.
** إن إذلال الناس قسوة لايرضاها الله ومن يسمع صراخ المسكين ولايستجيب, فإنه يصرخ أحيانا الي الله ولايستجاب. لأنه بالكيل الذييكيل به للغير, يكال له أيضا. فليلتفت القساة الي أنفسهم, لئلا يأتيالوقت الذي فيه يجازيهم الله حسب أعمالهم.
** متي يلين إذن قلب القاسي ويتخلص من قسوته؟ ومتي يرحم غيره لكي يعاملهالله بالرحمة؟ متي يعرف أن الفترة التي يمارس فيها القسوة علي الأرض هي فترة محدودة إذا ماقيست بالأبدية غير المحدودة. وفي نبل يشعر بآلام غيره.
***حسن أن يعيش الانسان سعيدا, ولكن إن أسعد غيره, فإنه يشعر بسعادةأكثر. فإن كانت في يده سلطة أو ثروة, ليته يستطيع أن يسعد بهاالآخرين, فيدعون له أن يبقيه الله وينميه, ويطرح الخير كل الخيرفيه.
** وإن كانت القسوة سببها السلطة أو محبة السيطرة, فإن السلطةلاتدوم, إنما هي اختبار للانسان كيف يستخدمها؟ هل لإسعاد غيره, أولإثبات عظمته هو وقدرته علي إخضاع الغير؟! حقا إن في القسوة لونا من الكبرياء يجب أن يتخلص منه القلب النبيل الحريص علي أبديته, كذلك فإن القلب الحساس الذي يشعر بآلام الغير ويشفق عليهم, لايمكن أن يكون قاسيافي يوم ما, ضد أي أحد.
نقلاً عن الأهرام