18 يناير 2009
حرب الشهوات
بقلم قداسة البابا شنوده الثالث
جريدة الأهرام
الشهوات كثيرة ومتنوعة. منها شهوة الجسد، وشهوة الرئاسة والمناصب، وشهوة الكرامة والعظمة، وشهوة المال، وشهوة الإمتلاك أو الاقتناء، وشهوة الشهرة، وشهوة الزينة والجمال، وشهوة السيطرة أو السُّلطة، وشهوة الانتقام والتدمير، وشهوة المعرفة وحُب الاستطلاع ...
?? وعلى الإنسان أن يُقاوم كل شهوة خاطئة. وما أجمل قول الحكيم: " افرحوا لا لشهوة نلتموها، بل لشهوة أذللتموها ". ذلك لأن الشهوة إذا سيطرت على القلب، تكون ملكية اللَّه للقلب قد انتقلت منه إلى ذلك الشيء المُشتهَى.
?? حقاً إنه من العيب أن يُقال عن شخص إنه ( شهواني )، أي أنه يُقاد بشهوته. فإذا اصطدمت بالشهوة، فأفضل وسيلة هى أن تهرب منها، بدلاً من أن تدخل معها في صراع قد تنهزم فيه. أو على الأقل ـ إذا انتصرت ـ يكون قلبك قبل ذلك قد تَدنَّس بالشهوة.
?? مادامت الشهوة لا تستريح حتى تكمُل، فالأفضل لك هو الهروب منها، والبُعد عن مُسبباتها. لماذا تدخل معها في صراع أو نِقاش؟ إنك كُلَّما أعطيتها مكاناً أو تهاونت معها أو اتصلت بها، حينئذ تتقوَّى عليك. وتتحوَّل من مرحلة الإتصال، إلى الإنفعال، إلى الاشتعال ... إلى الإكتمال.
فتتدرَّج من التفكير فيها، إلى التَّعلُّق بها، إلى الإنقياد لها، إلى التنفيذ، إلى التكرار،
إلى الجنون بها، إلى الاستعباد لها. وقد يلجأ الشخص إلى طُرق خاطئة لتحقيق شهواته:
إلى الكذب، أو الخِداع، أو الاحتيال. ورُبَّما إلى أكثر من هذا ...
?? وأحياناً إذا تعب إنسان من شهوة، يقع في خدعة ويقول: " من الأفضل أن أُشبع هذه الشهوة، حتى أقضي على هذا الاشتياق إليها، وأستريح "!!
إنَّ الشهوة لا تَشبع أبداً. فكُلَّما يُمارس الإنسان الشهوة، يجد لذَّة، واللذَّة تدعوه إلى المُمارسة. والقصة لا تنتهي ...
?? إن إشباع الشهوة لا ينقذ الإنسان منها، بل يزيدها ...
إنسان مثلاً يشتهي المال: نراه كُلَّما يجمع مالاً، يشتاق إلى مال أكثر، ويُحب أن يكثر ماله من الآلاف إلى المليون إلى المليار ...
شاب طموح يشتهي الترقِّي: إن وصل إلى الدرجة الرابعة، يشتاق إلى الثالثة، ثم إلى الثانية فالأولى، فدرجة مدير عام.
والذي يقع في شهوة الجسد، لا يشبع من شهواته ...
أبونا آدم كان له شجر الجنة ما عدا واحدة، فاشتاق إلى هذه الواحدة، حتى أكل منها ... وبالوضع مَن وقع في شهوة النساء قد لا يكتفي ...!
?? صدق سليمان الحكيم حينما قال: " العين لا تشبع من النظر، والأذن لا تمتلئ من السمع.. كل الأنهار تجري إلى البحر، والبحر ليس بملآن ... ".
لا تظن إذن أن إشباعك للشهوة ينقذك منها. لأنه لا ينقذك إلاَّ ضبط النفس والهروب من الشهوة. إن يوسف الصديق لم تكن له شهوة تحاربه من الداخل. ومع ذلك هرب من الشهوة التي تحاربه من الخارج من امرأة تشتهيه ...
?? مُفيد إذن هو البُعد عن الشهوات، لأنها جذور الخطايا .. فالزنى يبدأ بشهوة الجسد. والسرقة تبدأ بشهوة ما للغير أو بشهوة حُب الاقتناء. والكذب يبدأ بشهوة تبرير الذات
أو بشهوة تدبير شيء ما. والقتل يبدأ أحياناً بشهوة الانتقام أو الحسد، أو بشهوة الهروب من الانكشاف بخطية أخرى ...
?? لذلك إن نجا الإنسان من الشهوة، وانتصر عليها بالهروب منها، يكون قد انتصر على كل الخطايا التي بدايتها الشهوة ... وحقاً إن لذَّة الانتصار على النفس، بضبط النفس من جهة الشهوات، هى أعمق من لذَّة مُمارسة الشهوات ...
?? ونصيحتي لك، هى أنك إن تعبت من شهواتك، لا تيأس، ولا تظن أنه لا فائدة من المقاومة... بل فكّر فيما تستطيع أن تعمله نعمة اللَّه من أجلك، وليس ما تعجز أنت عن عمله.
إن اللَّه لا يتركك وحدك في جهادك الروحي ضد الشهوات، بل هو يعينك بقوة من عنده تسندك مادمت ترغب في أن تحيا حياة البِرّ. وفي ذلك قال أحد الآباء: " إن الفضيلة تريدك أن تريدها لا غير ". فإن أردت الفضيلة، حينئذ تدركك قوة من الأعالي تُساندك حتى تنتصر ...
?? أمَّا أنت فجاهد بكل إرادتك، وبالصلاة حتى يعينك اللَّه. ولا تخجل من أن تُصلِّي حتى وأنت ساقط تحت عنف الشهوة. بل تمسَّك باللَّه بالأكثر الذي يُمكنه أن يُنقِّيك ويُطهِّرك ...
قُل له: أنا يارب إن انهزمت أمام الشهوة، فأنا مازلت واحداً من خليقتك ومن رعاياك. أنا واحد من قطيعك الذي ترعاه حتى إن ضللت، فسوف تبحث عني وترجعني إليك.
لأنك تريد أن الجميع يخلصون، وأن ينتصروا على شهواتهم ...
أنت يارب لا تتخلَّى عني، وأنا لا أتخلَّى عنك، مهما حاول الشيطان أن يفصلني عنك .. وأنا يارب وإن كنت قد انهزمت حيناً أمام شهواتي، إلاَّ أني لم أتركك في أعماق قلبي،
ولن أتركك ...
?? لا تجعل حروب الشهوة تفصلك عن محبة اللَّه وعن محبة ملائكته وسمائه. وحتى إن ضعفت وسقطت، قُل له في عُمق: " أنت تعرف يارب أنها خطية ضعف، وليست خطية خيانة مني لك، ولو هى خطية بغضة لك، حاشا أن تكون كذلك ".
وفي كل ذلك، ثِق أن اللَّه يهتم بإنقاذك من كل شهواتك ومن كل سقوطك وضعفاتك، وسوف يجذبك إليه، ويردك إلى طريقه مهما بعدت بعيداً أو حاولت اغراءات العالم شدك إليها.
?? وتذكَّر دائماً أولئك الذين انتصروا في حرب الشهوات ضدهم، فإن ذلك يشجعك ويقويك. ولا تضع أمامك ما تعرفه عن ضعفاتك وانهزاماتك، فإنَّ ذلك يغرس اليأس في نفسك.
أيضاً تذكَّر الذين سقطوا وقاموا، ونموا في حياة التوبة حتى صاروا من الأبرار، واللَّه ـ في رحمته ـ لم يذكر لهم ماضيهم.
?? ولكي تتخلَّص من قوة الشهوات الخاطئة، حاول أن تجعل شهوة أمور أخرى من صفات البِرّ والفضيلة تحل محلها، وتجد عُمقاً في قلبك، لكي تقيم توازناً بين هذه وتلك في مشاعرك.
وثِق أن الجانب الخيِّر سوف ينمو داخل قلبك شيئاً فشيئاً، حتى تتخلَّص من شهوات الخطية.
وإن عرفت ضعفك، لا تعرّض نفسك لمحاربات الشهوة مرَّة أخرى. بل اهرب من كل مسبباتها، واغلق طرقها الموصلة إليك، واغلق أبواب قلبك أمامها. وليكن اللَّه معك.