5. الرهبنة هي حياة الحرية:
«إن حرَّركم الابن، فبالحقيقة تكونون أحراراً» (يو 8: 36). ما معنى الحرية؟ معناها: إن الرب أعطانا وصايا دون أن يُرغمنا على السلوك فيها. أعطانا وصايا، ولكن لم يرغمنا؛ وظللنا بحرية الإرادة، لأننا فيما نكون بحرية إرادة، نكون في صورة الله، لأن هذه من صفات الله، لأن الله حرٌّ. لذلك كانت آخر وصية ذكرها موسى جاءت في سفر التثنية أصحاح 30:
+ «قد جعلتُ قدامك الحياة والموت، البركة واللعنة، فاخترْ الحياة لكي تحيا أنت ونسلك» (تث 30: 9).
إنه لم يَقُل: ”آمرك“، ولكن قال: ”اختَرْ“. فأنت حينما تعمل الخير بإرادتك، تأخذ مكافأتك عليه. وإن سقطتَ تُعاقَبُ. إرادتك هي الميزان. ولكن إن كان غيرك يرغمك على الخير، فلماذا تأخذ المكافأة. ينبغي أن أسير في الطريق السليم بإرادتي. هل هذا يعني ألاَّ أكون تحت إرشاد؟ لا، لابد أن أكون تحت إرشاد.
ما هي وظيفة المرشد؟ وظيفة المرشد أن يرشد مَن يتتلمذ عليه دون أن يلغي إرادته، ودون أن يلغي شخصيته، دون أن يُغيِّر إرادته. الله الذي أرشد العالم كله وأرشد الأنبياء، لم يُغيِّر شخصية إيليا القوي الشديد، ولا إرميا الباكي. هذا له طريقه، وذاك له طريقه. لكنه يجعل الشخصية تسير في الخير، ولكن لا يُغيِّره. ثم إن المرشد يُعلِّم تلميذه كيف يتعلَّم الإفراز والحكمة وحياة الرهبنة الحقيقية؛ وكلما يُخطئ يرشده، إلى أن يعرف الطريق السليم، وقد يتحوَّل إلى مُعلِّم لآخرين، ولكنه يظل طول عمره تلميذاً. فكلنا تلاميذ للرب وتلاميذ لمرشدينا. ويبقى أيضاً في داخلك مرشد آخر هو روح الله القدوس الذي قال عنه السيد الرب: «يُعلِّمكم كل شيء» (يو 14: 26)، و”يُبكِّتكم على خطية“ (يو 16: 8). لكن للأسف، ليس كل واحد يطيع الروح القدس.
يوجد تعريف آخر للرهبنة، قال مار إسحق: ”السكون هو عمل الراهب“، فإذا فَقَدَ السكون اختلَّت حياته كراهب؛ أي سلامه الداخلي، مع السلام الخارجي. ووسط هذا السلام الخارجي والسلام الداخلي، يقول الكتاب: «ثمر البر يُزرع في السلام» (يع 3: 18).
6. الرهبنة هي حياة بركة، بركة للكنيسة كلها:
حينما أراد الله أن يحرق سدوم وتفاوَض مع أبينا إبراهيم، قال له الرب: ”إن وُجد في المدينة عشرة أبرار، لا أُهلك المدينة من أجل العشرة“ (تك 18: 32)، لأن هؤلاء العشرة كانوا بركة للمدينة. ونحن مع محبتنا العميقة جداً للرهبنة، شاء الله أن يُغيِّر حياتنا، وها نحن نخدم. ولكن فيما نحن نخدم، نعتمد على أن هناك قلوباً طاهرة في الرهبنة، هي بركة أن يصلُّوا من أجلنا. بركة القديس إيليا النبي الذي كان متوحِّداً على جبل الكرمل، وكان الناس قد وقعوا في عبادة الأصنام، فوقف إيليا يقول: ”لا يكون مطر ولا طلٌّ (نَدَى) على الأرض إلاَّ عند قولي“ (1مل 17: 1). هكذا أصبح إنسانٌ ينطق الله على فمه. ولما أراد أن المطر ينزل، صلَّى لله أن ينزل المطر. «عند قولي»، تعني: ”عند قول الله الحالِّ فيَّ“. إيليا يُمثِّل الأبرار البتوليين المتوحِّدين. هناك رهبنات كاثوليكية لراهبات كرمليات نسبة إلى إيليا لا يُقابلْنَ أحداً. إذا لم تستطع أن تحيا حياة وحدة كاملة إلى أيِّ حدِّ، فلتحيا حياة وحدة جزئية. في الوصايا العشر قال الله: ”تحب الرب إلهك من كل قلبك، ومن كل فكرك، ومن كل قدرتك؛ وتحب قريبك كنفسك“ (تث 6: 5). فلنأخذ كلمة: ”كل“، ونحكم على أنفسنا. قال أبونا القديس مقاريوس الكبير: ”أُحكُم على نفسك، يا أخي، قبل أن يحكموا عليك“، لأنه لا يعرف الإنسان إلا روح الإنسان الساكن فيه (1كو 2: 11).
7. الرهبنة هي حياة الصلاة الدائمة والانشغال الكامل بالله، وحياة التوبة الكاملة:
هي حياة الله فينا. هي عدم الخوف. هي كل ذلك بحرية كاملة أمام الله. هي البُعد عن الرئاسات. أنا أقول لكم، وأنا في موقف رئاسة، ولكن كل الذين حولي يعرفون تماماً أني لا أستخدم سلطاني كرئيس إطلاقاً، إلاَّ في مسألة واحدة هي مسألة العقيدة، لأني أعرف أن الإيمان هو عمل البطريرك الأول. نحن لا نحب شُغْل الرئاسات هذا. فالرئاسات لا تُخلِّص النفس، والإدارات لا تُخلِّص النفس. الله لن يُحاسبك في اليوم الآخر على هذا، ولكن يهمه في حسابه لك قلبك وفكرك فقط، ثم تصرُّفاتك بناءً على القلب والفكر: هل قلبك له أم لا؟ لذلك يقول القديس أُغسطينوس لله: ”سيظل قلبي تائهاً عنك إلى أن يستريح فيك“، أي لا يجد راحته إلاَّ في الله.
8. الانحلال من الذات:
قلنا إن الرهبنة هي الانحلال من الكل والارتباط بالواحد. وقد ينحل الإنسان من الكل ما عدا شيئاً واحداً: أن ينحلَّ من نفسه، من ذاته. لا شيء يُضيِّع الإنسان إلاَّ ذاته. تقول: الآخرون ضيَّعوني. أقول لك: لولا أن نفسك قابلة للضياع، ما كان يقدر أحد أن يُضيِّعك.
تنحلُّ من الكل ما عدا نفسك: كيف تكون؟ ماذا تكون؟ متى تكون؟ أشياء تُرعب رهباناً كثيرين. المسيح قال إن أول ما تفعله أن تُنكر ذاتك. فإن كان إنكار الذات واجباً على العلماني أيضاً، فكم بالأَوْلَى الراهب. ليس فقط يقول: أُنكر ذاتي، أي أكون مُستعبَداً لغيري، لا. أُنكر ذاتي أي لا تحاول ذاتي أن تكبر أو تتعظَّم، أو أن يكون لها أمام الناس قَدْر، ولا حتى أمام نفسك: ”إنسان حكيم في عينيِّ نفسه“، أو ”إنسان بار في عينيِّ نفسه“.
في الرهبنة، الواحد يشعر أنه لا شيء، مهما عمل، فهو لا شيء. لماذا: ”مهما عمل فهو لا شيء“، بسبب المبدأ الرهباني، وكلام الكتاب المقدس. في الكتاب المقدس على فم المسيح - له المجد - في العظة على الجبل، يقول: «كونوا أنتم كاملين» (مت 5: 48). ومَن فينا وصل إلى الكمال؟ وهذه الوصية هي حتى للعلمانيين. لذلك أحب أن أقول لكم معنىً ثانياً عن الرهبنة: الرهبنة هي حياة النمو الروحي إلى أن يصل الإنسان إلى الكمال. فحياتك الروحية تنمو يوماً بعد يوم إلى أن تصل إلى الكمال. الله أعطانا مثلاً عن هذا الكمال في نمو الشجرة، لها بذرة، وتظل تنمو البذرة وتنمو الشجرة، وربما أنت لا تحسُّ بها، كشجرة الجازورينا مثلاً التي ترتفع 15 متراً، بينما بذرتها صغيرة جداً.
وأعطتنا حياة الرهبنة أمثلة في النمو، مثل القديس ميصائيل السائح الذي أصبح سائحاً وهو شاب صغير. وهناك الآباء الذين كانوا صغيري السنِّ، ولكن ملأوا العالم قوة مثل: القديس تادرس، القديس باخوميوس، القديس يوحنا القصير. القديس تادرس تلميذ القديس باخوميوس أسَّس حوالي ستة من أديرة القديس باخوميوس، وكان هو ذراعه اليمين. وفي يوم من الأيام، مرض القديس باخوميوس مرضاً شديداً، وظن الناس أنه سيتنيح، فقالوا لتادرس: ”أنت ستخلفه“. فاعتذر وقال: ”لا أقدر، هذا مُعلِّمي“. ثم شُفي باخوميوس، فقال لتادرس: ”يا تادرس، أنت اشتهيت الرئاسة“. وأرسله القديس باخوميوس ليكون خبَّازاً في أحد الأديرة التي أسَّسها تادرس. فأطاع وسافر، وبينما هو في طريقه رافقه راهب آخر. وكان الرهبان آنذاك بالآلاف. فسأله هذا الراهب: ”إلى أين أنت ذاهب؟“ فردَّ عليه (القديس تادرس). وسأله: ”ماذا تشتغل؟“ فردَّ (القديس تادرس): ”خبَّاز“. فقال له الراهب ناصحاً إيَّاه، دون أن يعرف أنه ”تادرس“: ”احترس من الخبَّازين، وأنا أنصحك نصائح تنفعك لما تصير خبَّازاً“. فبعدما نصحه، قال له تادرس: ”لقد استفدتُ كثيراً من نصائحك، أيها الأخ“. ووصل تادرس إلى الدير واستُقبل استقبالاً كبيراً. فسأل هذا الراهب: ”مَن هذا الذي تعملون له هذا الاستقبال؟“ فقالوا له: ”هذا تادرس تلميذ باخوميوس“. وذهب تادرس، واستطاع بحياته الطاهرة، أن يُحوِّل الخبَّازين إلى قديسين، ولكنه تواضع، ولم يفقد قدْره حتى وهو خبَّاز.
عظمة الإنسان في داخله، في علاقته مع الله، وليس في المناصب التي يتولاَّها.
القديس الأنبا رويس، التي توجد الكاتدرائية في رحابه هناك، لا كان راهباً، ولا قسيساً، ولا أسقفاً، لا شيء؛ كان جمَّالاً. لكن اسمه القديس الأنبا رويس. وكان بطريرك ذلك الزمان يتمنَّى بركته. فالموضوع ليس ألقاباً ولا رئاسات. واسم ”رويس“، هو اسم الجَمَل الذي يقوده. أما اسمه الحقيقي فهو ”آفا تيجي“، وعلى اسمه بلدة ”أبو تيج“ في الصعيد.
في الرهبنة الكتاب المقدس مهمٌ جداً. داود النبي يقول: «لو لم تكن شريعتك تلاوتي، لهلكت حينئذ في مذلَّتي». أما الشريعة في زمان داود، فلم تكن سوى أسفار موسى الخمسة، ويشوع، والقضاة، وصموئيل. وباقي الأسفار كُتبت بعد داود. هذا القليل قال عنه داود في المزمور الكبير: «شريعتك هي درسي»، «شريعتك هي تلاوتي»، «وجدتُ كلامك كالشهد فأكلتُه»، «ولكل كمال رأيت منتهى، أما وصاياك فواسعة جداً». مَن هو الذي يقول هذا الكلام؟ هو الشخص صاحب التأمُّل الضخم والعميق في الكتاب. «أما وصاياك فواسعة جداً»، «لكل كمال». وما هو الكمال المطلوب من الراهب؟ إنه طبعاً الكمال النسبي، أي نسبة لِمَا تستطيعه وللنعمة المُعطاة لك.
قيل عن القديس الأنبا بيشوي أنه صام مرة 20 يوماً. وبعد هذا نظر من الطاقة فرأى راهباً لم يَصُم إلاَّ يوماً واحداً، وكان سائراً يترنَّح، فقال الأنبا بيشوي لله: ”ما قَدْر هذا الراهب عندك؟“ فردَّ عليه: ”مثل قَدْرك أنت بالضبط يا مَن صُمتَ 20 يوماً“. فسأله: ”ولماذا يا رب؟“ فقال له: ”لأنه لو أُعطي النعمة التي أُعطِيَت لك، لكان يقدر أن يصوم 20 يوماً“. إذن، فلتصلِّ للرب بالليل والنهار: ”يا ربُّ، أعطني هذه النعمة، لأني بدونك لا أستطيع شيئاً. أعطني نعمتك“، قُلها ليس فقط بفمك، ولكن اجعل النعمة تعمل فيك. إذن، الرهبان هم كنوز النعمة. النعمة تعمل فيهم، فيعملون عمل الرب، وإذا تكلَّموا كلمة، تكون هي كلمة الرب.
أنا قلتُ لكم: الرهبنة هي حياة الاتضاع، وأضرب لكم مثلاً بسيطاً جداً. مرة زار البطريرك أنبا ثاؤفيلس الـ 23 رهبان جبل نتريا الخاص بالمتوحدين. فسأل أب الجبل: ”ما الذي أتقنتموه طوال عمركم في الوحدة؟“ فقال له: ”صدِّقني، يا أبي، لا يوجد أفضل من أن يأتي الإنسان بالملامة على نفسه في كل شيء“. ولكن أن أقول: ”أنا جيد، وأخي رديء. وديرنا جيد، والأديرة الأخرى منحلة“، فنكون كما فعل الفرِّيسي مع العشار، إذ قال: ”أشكرك، يا رب، لأني لستُ مثل سائر الناس“ (لو 18: 11)، ولا مثل هذا الراهب الذي لا يُصلِّي، ولا مثل هذا الراهب الذي لا يعمل. وأنت نسيتَ نفسك. لا تنسَ نفسك في الحُكْم على الخطية. نحن شاطرون جداً في الحُكْم على الآخرين، ولكننا لا نحكم على أنفسنا.
ما أسهل أن نحكم على أيِّ أحد. والمسيح إلهنا أعطانا مثلاً عجيباً جديراً بأن تضعوه في أذهانكم. مرةً قال له واحد: ”قُل لأخي أن يقاسمني الميراث“، فقال له: ”مَن أقامني قاضياً أو مُقسِّماً؟“ (لو 12: 14،13) مَن أقامك قاضياً؟! إنك أنت، يا رب، ديَّان الأرض كلها؛ وكل راهب منَّا مشهور بأنه يلبس جُبَّة القاضي، ويحكم على هذا وذاك.
? بعد كل هذا الكلام، هناك كلمة طيبة يقولها لنا مُعلِّمنا داود النبي: «طوباهم الذين بلا عيب في الطريق، السالكون في ناموس الرب».
داود الذي يقول هذا الكلام له قصة لطيفة. لما كان شاول الملك عليه شيطان، كان داود يُحضِر العود ويضرب له لكي يهدأ، فكان يهدأ، لكنه كان يهدأ بسبب داود. كان داود يقف بينه وبين غضب الله، فيرى الله داود فيزول غضبه، ويُشرق على شعبه. قد تقول لي: نغمات داود هي التي خلَّصت شاول، لا. هناك نغمات أخرى أحياناً يحبها القديسون، مثل القديس أنبا كاراس الذي في ساعة موته ظهر له ملاك قال له: ”ماذا تريد؟“ فقال له: ”أُريد ترنيمة: ارجعي يا نفسي إلى موضع راحتك، لأن الرب قد أحسن إليكِ“.
9. الرهبنة هي حياة عُمْق:
عند أهل العالم سطحية، لكن الرهبنة فيها العمق. قد تقول: نحن رهبان نقول التسبحة من أولها لآخرها. ولكن هل تقول التسبحة بعمق؟ أو بسرعة وجَرْي؟ الصلاة بعمق، إن كانت قصيرة، فهي أحسن من ألف صلاة طويلة. اللص اليمين لم يَقُل سوى 3 أو 4 كلمات: «اذكُرني يا رب متى جئتَ في ملكوتك»؛ والعشَّار قال: ”ارحمني يا رب فإني خاطئ“، فخرج مبرَّراً، لأن صلاته كان فيها عُمْق. كانت الكلمة كلها من القلب. ما أكثر الناس الذين يُصلُّون ثم تأتي الملائكة من السماء ويقولون: لماذا لم يُصلِّ هؤلاء اليوم؟ لأن الصلاة لم ترتفع إلى فوق. يُصلِّي راهب، ويأتي واحد من الأربعة والعشرين قسيساً، ويأخذ هذه الصلاة في مجمرته ويصعد بها إلى فوق مرفوعة إلى الله كبخور أمام الله.
ومع كل هذه الفضائل الرهبانية التي كانت لأبينا القديس مقاريوس الكبير، زار مرة اثنين من السوَّاح، وحينما عاد سأله تلاميذه: ”ماذا رأيتَ يا أبانا؟“ فقال لهم كلمة عجيبة: ”أنا لم أَصِر راهباً بعد، بل رأيتُ رهباناً“. درجة السوَّاح درجة كبيرة. لا أُريدكم أن تنموا إلى أن تصيروا سوَّاحاً، ولكن يكفي أن تكون قلوبكم في سياحة نحو قلب الله. إذا لم تستطيعوا أن تَسْيحوا في البراري، فلْتسيحوا في قلب الله. علاقتك بالله أن يكون الله في قلبك وأنت في قلب الله، وألاَّ تنفصل هذه العلاقة عنك. هذه هي الرهبنة.
ونحن راجعون من الرحلة، قد يقول واحد: إياك أن تخاف من وقوع حادثة. فنقول: لا، هذه بركة الرهبان الذين كنَّا عندهم، لا يدعون الحوادث تحدث. بركة الرهبان، هم بركة.
(تكملة العظة، أُلقيت في الزيارة الثانية يوم 16/5/2009).
10. الحياة الرهبانية هي السلام الكامل:
السلام الكامل في قلب الإنسان، سلام في قلبه، وسلام في علاقته مع الله، وسلام في علاقته مع الناس. هذا السلام يظهر حتى في ملامحه، فقد تجلس مع راهب من بتوع ربنا، فتشعر أن وجهه مملوء سلاماً؛ بل ويمنح السلام للآخرين أيضاً.
لذلك كانت جميلة تلك العبارة التي قيلت للقديس أنبا أنطونيوس (من زائر لم يسأله ولا سؤالاً واحداً مثل الزوَّار الآخرين): ”يكفيني مجرد النظر إلى وجهك، يا أبي“. الراهب لا يحتاج إلى دروس كثيرة في الرهبنة، إنما مجرد النظر إلى وجه الأنبا أنطونيوس يُعطيه دروساً كثيرة أخرى: دروساً في الطمأنينة، وفي البرِّ، وفي العلاقة مع الله. فالعلاقة مع الله تظهر أيضاً في الملامح، الملامح المملوءة سلاماً والتي تمنح السلام للآخرين. ولعلكم تُلاحظون أن كلمة: ”السلام لجميعكم“ هي أكثر عبارة تتكرر في القدَّاس الإلهي، يقولها الكاهن للشعب مرات عديدة: ”السلام لجميعكم“، فيردُّون عليه قائلين: ”ولروحك أيضاً“. السلام الذي يأخذه الراهب في حياته يستمر معه حتى عندما يُفارق الحياة، فهو يُفارقها بسلام.
هناك إنسان يخاف من الموت، وهناك إنسان يستقبل الموت بكل فرح، كما قال أحد الآباء: ”إن الموت عبارة عن جسر ذهبي ما بين الأرض والسماء“. إنما يخاف الموت الشخص الذي كان لا يعيش في سلام أبداً، ولا يعرف كيف يُلاقي الموت، ولا يعرف كيف وماذا تكون الحياة بعد الموت؟! ولذلك فمِن الأشياء الجميلة التي قالها السيد المسيح: «اصنعوا لكم كنوزاً في السماء». ليست الكنوز مجرد العطايا المادية التي تعطونها للآخرين، إنما كل عمل خيِّر تعمله يكون مكنوزاً لك في السماء، كل كلمة طيبة قلتها للناس تكون مكنوزة لك في السماء، كل قدوة حسنة قدَّمتها للآخرين تكون مكنوزة لك في السماء، كل عطف، كل حنان، كل رقَّة؛ كل هذا مكنوز لك في السماء. لذلك لا يليق بالراهب أن يشخط وينطر ويُخيف الذي أمامه؛ فهذه أيضاً تكون مكنوزة لك في السماء.
أنا أرجو أن تعيشوا الحياة الهادئة المملوءة من السلام. ولذلك قيل عن الرهبنة أنها حياة الهدوء والسلام. ?