وعجبت من هذه العبارة فسألت "وكيف استطيع ان اكون خادماً وانا مشغولاً بعملى العالمى؟" فأجابنى الملاك :
"لعلك نسيت يا أخى عمومية الخدمة ! يجب ان تخدم الله فى كل وقت وفى كل مكان : فى الكنيسة وفى الطريق وفى منزلك وفى مكان عملك وأينما حللت او تنقلت.
"لايجب إذن الفصل بين المهنة والخدمة فعندنا فى مدينة الخدام مدرسون استطاعوا ان يجذبوا كل تلاميذهم المسيحيين الى مدارس الاحد وأن يصلحوهم ويتعهدوا بالعناية المستمرة.
وعندنا فى مدينة الخدام اطباء لم يتخذوا الطب تجارة وإنما اهتموا قبل كل شئ بصحة مرضاهم مهما كانت حالتهم المالية فكانوا فى احيان كثيرة يداوون المريض ويرسلون له الدواء - كل ذلك بدون اجر بل كانوا يقومون بتأسيس المستشفيات والمستوصفات المجانية
وعندنا فى مدينة الخدام موظفون استطاعوا ان يقودوا كل زملائهم فى العمل الى الكنيسة للاعتراف والتناول من الاسرار المقدسة. وهناك ايضاً مهندسون ومحامون وفنانون وتجار وصناع : كل أولئك كانوا خداماً فى مهنهم فهل كنت انت كذلك؟"
فخجلت من نفسى ولم اجب ولكن الملاك قال لى فى تأنيب مؤلم:
- "هذا عن الخدمة فى مجال عملك: ثم ماذا عن خدمتك فى اسرتك! - إن يشوع الذى تراه فى مدينة الخدام كان يقول "اما انا وبيتى فنعبد الرب". اما انت فلم تخدم بيتك بل كنت على العكس فى نزاع مستمر مع افراد اسرتك بل فشلت فى ان تكون قدوة لهم وأن تجعلهم يقتدون بك. ثم ماذا عن اصدقائك وزملائك وجيرانك ومعارفك؟ كنت تزورهم فى عيدى الميلاد والقيامة دون ان تحدثهم عن الميلاد والقيامة وعن الولادة الجديدة والقيام من الخطية بل تفرح معهم فرحاً عالمياً وأتيحت لك فرص كثيرة لخدمتهم ولم تستغلها فهل تعتبر نفسك بعد كل ذلك خادماً؟!"
وطأطأت رأسى خجلاً للمرة الثالثة ولكنى مع ذلك احتلت على الاجابة فقلت :
"ولكنك تعلم ياسيدى الملاك اننى شخص ضعيف المواهب ولم اكن مستطيعاً ان اقوم بكل تلك الخدمة".
واندهش الملاك وكأنما سمع هذا الرأى لأول مرة فقال لى فى حدة:
- "مواهب؟ ومن قال انك بدون مواهب لاتستطيع ان تخدم! هناك يا أخى مايسمونه العظة الصامتة : لم يكن مطلوباً منك ان تكون واعظاً وإنما ان تكون عظة ... ينظر الناس الى وجهك فيتعلمون الوداعة والبشاشة والبساطة ويسمعون حديثك فيتعلمون
الطهارة والصدق والامانة ويعاملونك فيرون فيك
التسامح والإخلاص والتضحية ومحبة الآخرين
فيحبوك ويقلدوك ويصيروا بواسطتك اتقياء دون ان تعظ او تقف على منبر ثم هناك صلاتك من اجلهم وقد تجدى صلاتك اكثر من عظاتك".
وللمرة الرابعة تولانى الخجل والارتباك فلم احر جواباً - واستطرد الملاك فى قوله :
- "وكان يجب عليك ايضاً – كعظة صامته - ان تبتعد عن العثرات فلا تتصرف تصرفاً مهما كان بريئاً فى مظهره إن كان يفهمه الآخرون على غير حقيقته فيعثرهم - وهكذا تكون (بلا لوم) امام الله والناس كما يقول الكتاب: جاعلاً اما عينيك كخادم قول بولس الرسول "كل الاشياء تحل لى ولكن ليست كل الاشياء توافق"(1كو 6: 12)
وتأملت حياتى فوجدت اننى فى احوال كثيرة جعلت الاخرين يخطئون ولو عن غير قصد. وقطع على الملاك حبل تأملاتى قائلاً فى رفق:
"ولكن ليس هذا هو كل شئ اننى اشفق عليك كثيراً ياصديقى الانسان. وقد كنت اشفق عليك بالاكثر أثناء وجودك فى العالم وبخاصة فى تلك اللحظات التى كنت تتألم فيها من (البر الذاتى) كنت تنظر الى خدماتك الكثيرة فتحسب انك مثال للخدمة بينما لم تكن محسوباً خادماً على الاطلاق. ولعلك قد اقترفت اخطاء كثيرة اخرى منها ان خدمتك كانت خدمة رسميات فقد كنت تذهب الى مدارس الاحد كعادة اسبوعية وكعادة ايضاً كنت تصلى بالاولاد وكنت ترصد الغياب والحضور فتعطى للمواظب جائزة وتهمل الغائب كأنك غير مسئول عنه. وهكذا خلت خدمتك من الروح ومن المحبة ولم تستطع ان تصل الى اعماق قلوب الاولاد لان كلماتك وتصرفاتك لم تكن خارجة من اعماق قلبك. ولم يكن فى الترتيل الذى تعلمهم اياه روح البهجة ولم تكن فى صلاتك معهم روح الانسحاق أو التأمل أو التضرع. ولم تكن فى اوامرك لهم روح المحبة. وهكذا لم تحدث فى خدمتك تأثيراً وكذلك كنت فى عظاتك فى الكنائس أيضاً : تعظ لأن الكاهن طلب منك ذلك فوعدته وعليك ان تنفذ فكنت تهتم بتقسيم الموضوع وتنسيقه وإخراجه فى صورة تجذب الاعجاب اكثر مما تهتم بخلاص النفوس وكان صوتك رغم علوه وايقاعه ووضوحه بارداً خالياً من الحياة وكنت تبتهج - ولو داخلياً فقط - بمن يقرظ موضوعك دون ان تهتم هل جدد الموضوع حياة ذلك الشخص أم لا. ألا ترى معى ياصديقى انك كنت تخدم نفسك ولم تكن تخدم الله ولا الناس ولعل من دلائل ذلك ايضاً انك كنت ترحب بالخدمة فى الكنائس الكبيرة المشهورة الوافرة العدد دون الكنائس الصغيرة غير المعروفة كثيراً.
"ثم انه نقص من خدمتك فى هذه الناحية أمران هما: حب الخدمة وحب المخدومين ... اما عن حب الخدمة فيتجلى فى قول السيد المسيح "طوبى للجياع والعطاش الى البر لأنهم يشبعون" فهل كنت جوعاناً وعطشاناً الى خلاص النفوس؟ هل كنت طول الاسبوع تحلم بالساعة التى تقضيها وسط اولادك فى مدارس الاحد ؟ هل كنت تشعر بألم إذا غاب احدهم , وبشوق كبير الى رؤية ذلك الغائب فلا تهدأ حتى تجده وتعيد عليه شرح الدرس! - ثم الامر الآخر وهو حب المخدومين هل كنت تحب من تخدمهم وتحبهم الى المنتهى مثلما كان السيد المسيح يحب تلاميذه؟ هل كنت تعطف عليهم فتغمرهم بالحنان؟ وهل احبك تلاميذك أيضاً ؟ ام كنت تقضى الوقت كله فى انتهارهم ومعاقبتهم بالحرمان من الصور والجوائز؟
من قال لك ان تلك الطريقة صالحة لمعالجة الاولاد؟
ان المحبة ياصديقى الانسان هى الدعامة الاولى للخدمة. ان لم تحب مخدوميك لاتستطيع ان تخدمهم وان لم يحبوك لا يمكن ان يستفيدوا منك".
وأطرقت فى خجل مرير وقد انكشفت لى حقيقتى بينما نظر الى الملاك نظرة كلها عطف ومحبة وقال :
"اريد ان اصارحك بحقيقة هامة وهى انه كان يجب ان تقضى فترة طويلة فى الاستعداد والامتلاء قبل ان تبدأ الخدمة - لأنك وقد بدأت مبكراً ولم تكن لك اختبارات روحية كافية وقعت فى اخطاء كثيرة".