سيرة أبينا الأسقف المتنيح الأنبا يوأنس أ

ثم توج إختباره للألم بأن دون لنا خبرته الطويلة لفائدتنا الروحية فى كتاب "المسيحية والألم". ودون لنا فى ختام الكتاب ابتهال الى الله قال فيه :"نشكرك أيها الرب الهنا يا من جعلت من الألم بركة وجعلته السبيل الموصل الى المجد .. لقد سلكت أنت طريق الألم من بيت لحم الى الجلجثة. أنت المنزه عن الألم .. لكنك احتملته فى الجسد الذى أخذته من القديسى الطاهرة مريم. كل ذلك من أجلنا . ما أروع ماقاله عبدك ورسولك بولس "يسوع نراه مكللا بالمجد والكرامة من أجل ألم الموت ، لكى يذوق بنعمة الله الموت لأجل كل واحد. لأنه لاق بذاك الذى من أجله الكل وبه الكل ، وهو آت بأبناء كثيرين الى المجد ، أن يكمل رئيس خلاصهم بالآلام .. لأنه في ماهو قد تألم مجربا يقدر أن يعين المجربين". (عب 2 : 9 ،10 ، 18)

أهلنا ياإلهنا أن نتشبه بك فى آلامك فكى نستحق أن نشاركك مجدك .. وشددنا فى إحتمال الآلام المختلفة ، وقو ضعفنا وإسندنا لكى نشابه قديسيك فنستأهل مجدك.."

هكذا كان احتماله للآلام يخرج منه خبرات روحية بدأها ببستان الروح وتوجها بتدوين خبرته مع رحلته الآلام الطويلة. وتحدث عن تعاليم المسيحية الجميلة التى إختبرها : ]المسيحية ومفهوم جديد للآلم ، مدرسة الألم ، المحبة كإعداد للآلم ، لماذا يسمح الله بالآلم ، بركات الألم ، مشجعات لإحتمال الألم ، ثم عرض فى ختامها عينات للمتآلمين الظافرين".

لقد جاز نيافته طريق الألم واختبره الى أقصى درجة أو على حد تعبير أحد الأطباء يوما أن قال له "ياسيدنا لقد عملت عمليتين جراحيتين كبيرتين".

سواء بالعمود الفقرى .. أو عملية تغيير ثلاثة شرايين بالقلب .. لقد عبر نيافته عن الألم الشديد فى عملية العمود الفقرى الأولى بمذكراته إذ يقول : ]اليوم الرهيب الأربعاء 30 سبتمبر 1964 عملت لى عملية جراحية الساعة 3 بعد الظهر واستمرت 3 ساعات وأفقت من البنج وأنا فى السرير وموضوع فى الجبس . إختبرت أوقاتا صعبة جدا . وعانيت من آلام شديدة للغاية – شبهتها فى ذلك الوقت بآلام الشهداء .. إن الجبس رهيب جدا ولكن الألم بدأ يتناقص وأخذت أنا على الجبس تدريجيا.. ولكن كان ذلك بلا شك برحمة الله. من أجل صلوات المحبين للذين هزوا عرش السماء. من أجل انسان خاطىء مسكين!! لكن رحمة الرب تجلت ولم تستطع الخطية أن تحجبها وشفاعات القديسين الأحياء والمنتقلين كان لها أثرها الواضح الظاهر. [هكذا وصف آلام العمليى الجراحية الأولى. ومالى أصف العملية ولم أصف حالته.. لقد كان يعانى قبلها آلاما شديدة ولا يمكنه ان يقف دون ان يلبس حزاما بل قل قفصا من الحديد .. وفى احدى المرات وكان سيعرض على احد الأطباء الأجانب وسبقه بالدخول أحبائه من الأطباء المصريين بالأشعات فقال الطبيب الأجنبى بعد أن رأى الأشعات "أظن ان صاحب هذه الحالة أتى محمولا على نقالة طبية". وكان الرد أبدا بل أتى سائرا على قدميه متحاملا ومحتملا الألم.. وهكذا عبر نيافته عن ذلك الألم (قبل إجراء العملية) بقوله .. ]يوم الإثنين 28/9/1964 الساعة 17 طلبونى لأعمل فورمة الجبس التى سألبسها بعد العملية وعلى الرغم من أن الجبس والنوم فيه صعب وسيستمر ذلك نحو 3 أشهر لكنى مع ذلك كنت فرحا حتى انتهى مما أنا فيه[. لم يحده الألم أو الحزان الحديدى عن الخدمة بل سمعناه إنه كان حينما يدعى ليصلى لانسان مريض ويجد هذا المريض غير قادر على الحركة .. يرفع قلبه بالشكر الى الله أنه اعطاه القدرة ان يقف على قدميه وأعانه حتى يخدم رغم ظروف آلام ظهره.

أما عن العملية الثانية ]جراحة القلب[ فماذن نقول .. إن آلام القلب كانت مبرحة لكنها لم تمنعه من الخدمة .. وظل يؤجل السفر الى الخارج مهتما بالخدمة منذ أن أصيب بالجلطة الصدرية عام 1982م حتى اضطر للسفر فى سبتمبر 1985 م لتغيير ثلاثة شرايين من الأربعة الرئيسية فى القلب . نقول رغم أن آلام القلب كانت شديدة إلا أنه كان يصر على أن يعظ لمدة طويلة. يصر على خدمة القداس باستمرار .. ويصر على الخدمة والسفر سواء للمحلة الكبرى أو أية بلدة بالإيبارشية وكان لسان حاله قول بولس الرسول "فى ضعف الجسد بشرتهم" وكمثال نذكره هنا .. إنه فى بداية سلسلة أحاد الصوم الأربعينى 1983م وبعد أن دخل الى كاتدرائية مارجرجس بطنطا ليلقى العظة. فاجأه ألم الذبحة الصدرية فى صورة أزمة قلبية حادة. وظل بالهيكل يطلب من الله يخفف الألم ويضع حبات تحت لسانه حتى ما يسكن الألم .. وبعد حوالى الساعة استطاع ان يتكلم وواصل الكلام ساعتين ونصف .. لقد كانت العظة عن المحبة .. وكان سلوكه هذا أكبر تعليم عن محبته لله الذى يخدمه باذلا نفسه .. ومحبته للرعية التى جاءت لتسمع كلمة الله ولا يريدها تعود فارغة . إنها المحبة الباذلة.

ونعود لنقرأ كلماته فى وصفه للعملية الجراحية الكبرى الثانية : ]تقابلت مع دكتور مجدى يعقوب وقال لى إنى أحتاج الى عملية جراحية وتغيير ثلاثة شرايين من الأربعة الرئيسية وطلبت من الدكتور مجدى يعقوب بالاستعجال فى إجراء العملية ووعد بذلك[. لقد سافر وهو معتمدا على ذراع إلهه الحبيب . وكانت إحدى الخادمات قد رأت رؤيا رواها يوم وصوله لكاتدرائية ماربولس 9/12/1985 إذ قال أنها رأت "الأنبا يوأنس يعظ بكاتدرائية مارجرجس باجتماعه الأسبوعى. وإذ بالباب الرئيسى للكاتدرائية يفتح ويدخل منه شخص مهيب هو السيد المسيح له كل المجد. ويسير فى اتجاه الأنبا يوأنس وحينما وصل اليه سجد الآنبا يوأنس تحت قدمى رب المجد السيد المسيح فأقامه قائلا :"قم كمل خدمتك" وهكذا عاد يكمل خدمته ويكمل جهاده وبذله من أجل شعبه. ولابد أن أذكر هنا أن بعد أن دخل فى أول أكتوبر 1985م الى حجرة العمليات بلندن أنهم لم يعثروا على عينة دمه فى المستشفيات مما اضطرهم الى تأجيل العملية ليوم 2 أكتوبر وفى نفس الوقت إذ بأزمة قلبية تفاجأه وكان هذا تدخلا من الله لكى يحفظ حياته ويكمل خدمته على أكمل وجه.

وهكذا استمر لا يشفق على جسده بل يتحامل أكثر مما يحتمل هذا القلب .. كان يظل واقفا لساعات بعد العظة الأسبوعية سواء فى المحلة الكبرى أو طنطا ليسلم على كل انسان ويجيب على كل تساؤل. وهكذا عبر قداسة أبينا البابا المعظم عن احتماله لما هو فوق طاقته بقوله : ]كانت بينى وبينه محبة كبيرة لا يعبر عنها . وأتذكر حينما ناء قلبه عن احتمال الجهد الكبير الذى يبذله سواء فى الوعظ أو التأليف أو الرعاية أرسلت معه بطاقة خاصة الى الأستاذ الدكتور/مجدى يعقوب ، حيث أجرى له عملية ثلاثية غير بها ثلاثة شرايين فى القلب. وعاد وهو مطمئن ولكن قلبه لم يعد يحتمل كما كان من قبل. لم يكن يحتمل الجهد الكبير الذى يبذله وجاء وقت من الأوقات رقد فيه هذا القلب. واستراح من أعباء هذه الدنيا[.

ولا ننسى أن نسجل أن خبرة الألم جعلته يشعر بآلام المرضى . ولذا خصص مظروفا كتب عليه "للمرضى والعمليات الجراحية". إذ كان يشعر بآلام المتألمين.. ولعل أكثر من رأوا نيافته بعد نياحته كان أبنائه المتألمين والذين مروا بتجربة عملية جراحية.

الأنبا يوأنس وفضيلة التجرد
"لا تكنزوا لكم كنوزا على الأرض. بل اكنزوا لكم كنوزا فى السماء لأنه حيث يكون كنزك هناك يكون قلبك أيضا". (مت 6 : 19 – 21)
"إن حكمة الأباء النساك فى التجرد من المقتنيات هى لكى يقودهم ذلك للتجرد من الشهوات وجذور الخطية الخفية". (الرهبنة المسيحية).

لقد رثى نيافة الأنبا يوأنس أحد أبنائه الكهنة بقوله .. ]حياة الإنسان على الأرض حياة غربة .. أى أن هذه الأرض ليست وطنه الدائم . وإنما هو يقضى فيها وقتا طال أو قصر ليشهد لله بحياته ، يمجده بأعماله ، بعدها يعود الى الله فى الملأ الأعلى ليحيا معه الى الأبد[.

هكذا كان الأنبا يوأنس يشعر بأن اهتماماته هى فوق لا يهتم بشىء على الأرض بل لعل إحدى العبارات التى كانت محببة الى قلبة والتى كان دائما يرددها هى عبارة القديس أوغسطينوس "جلست على قمة العالم عندما احسست أنى لا أشتهى شيئا ولا أريد شيئا".

كان ينظر الى التجرد على أنه طقس الكمال . وكان يرى التجرد يقود الى نقاوة النفس. وحينما كتب مذكراته عن الرهبنة المسيحية قال نقلا عن القديس يوحنا التبايسى "إن لم يبدأ الإنسان بالتجرد عن المقتنيات لا يمكن ان يتجرد من آلام الأفكار الرديئة. وإن لم يتجرد عن حركات الآلام السمجة لا يقتنى نقاوة النفس التى هى مبدأ سيرة الانسان الجديد". واستطرد مستشهدا بعبارات مارفيلوكسينوس إذ يقول "الانسان لا يستطيع أن يسير فى طريق الكمال مادام يملك شيئا جسدانيا لانه حسب مقدار الاقتناء تكون رباطات النفس التى تربط جناحات العقل فتعطل طيرانها الى طريق السماء.
كان لا يحب أن يملك شيئا بل حينما تقدم اليه هدية كثيرا ماكان يوجه نظر مقدمها مبكتا أنه كان أفضل ان يوجه المبلغ لاخوة الرب. (الفقراء)

لقد عاش وهو اسقف راهبا .. عزوفا عن مظاهر التكريم بل لقد كان يخجل منه.
وكانت له عبارة يرددها "أنا لا أملك شيئا ، حتى الجلابية التى أرتديها".
هكذا لم نراه محبا لأن يقتنى شيئا سوى الفضيلة جتى أصبحت حياته بستانا للفضائل. علمنا بحياته أكثر مما علمنا بتعاليمه. بل وجاءت أقواله موافقة لحياته.

الأنبا يوأنس الخادم الملتهب الغيور
"إبن الإنسان لم يأتى ليخدم بل ليخدم ويبذل نفسه فدية عن كثيرين".
"الخدمة فى أية صورة من صورها هى تعبير عن الحب. وبقدر ما يكون الحب كبيرا تصبح الخدمة أصيلة وغير مغرضة وعظيمة". (الكاروز العظيم القديس ماربولس الرسول).


ماذا يمكننا أن نكتب عن أبينا الأسقف الأنبا يوأنس الخادم الملتهب .. لقد كان نيافته يؤمن أن "الخدمة فى أية صورة من صورها هى تعبير عن الحب. وبقدر ماكان الحب كبيرا بقدر ما تصبح الخدمة أصيلة وغير مغرضة وعظيمة".

كان يؤمن أن "الخدمة السليمة فى أى صورة من صورها لا تستهدف الا صالح من نحب وبقدر ما تظل الخدمة فى هذا الخط بقدر ما تكون مقبولة ومثمرة".

لقد كان نيافته خادما غيورا تمثل بالقديس بولس منذ شبابه المبكر منذ أن كان علمانيا .. وكانت لديه الغيرة والحمية على خلاص كل أحد لسان حاله كلمات بولس الرسول "من يضعف وأنا لا أضعف من يعثر وأنا لا ألتهب". (2 كو 11 : 29) . يصعب علينا أن نجد مجالا من مجالات الخدمة لم يخضه نيافة الأنبا يوأنس. ولننصت لصوت أبينا المعظم وهو يلخص خدمة نيافة الأنبا يوأنس ويقول :"نحن نشكر الله أن نيافة الأنبا يوأنس عمل على قدر ما يستطيع بل وفوق مايستطيع فوق احتمال هذا القلب الجسدى. كان يعظ باستمرار وكان يؤلف العديد من الكتب فى نواح متعددة فى التاريخ وفى الروحيات وفى العقيدة . كان يعظ باستمرار وكان يفتقد شعبه .. كان انسانا لطيفا مرحا يستطيع ان يعيش ببساطة مع الناس وكان قويا فى عاطفته .. كانت له مواهب كثيرة افتقدناها الآن".

لقد خدم نيافة الأنبا يوأنس وهو لازال علمانيا كخادم مبرز فى التربية الكنسية بشبرا والمنصورة وامتد الى قطاع الفقراء والملاجىء .. ثم خدم وهو راهب كمشرف روحى على طلبة الكلية الإكليريكية المعدين للتكريس ولخدمة الكهنوت وامتدت خدمتة وقتها للوعظ بمختلف الكنائس وبدأت معها موهبته فى التأليف إذ صدر له أول كتبه بستان الروح الجزء الأول عام 1960م. ثم جاء نيافته الى الغربية بعد أن نال نعمة الأسقفية وكان يحمل شعار "المسيح مثلنا الأعلى فى الخدمة". محتذيا به فى اتضاعه ، فى بذله ، فى حدبه على الخطاة ، ومحبته لهم وظل يطبق هذا الشعار طيلة سنى حبريته ، بل كثيرا ماكان يتحدث عن هذا الموضوع.

جاء الى الغربية وهو يؤمن أن عمل الخادم أى كانت رتبته هو أن يقول للناس "ذوقوا وانظروا ما أطيب الرب ". لذلك حينما يتكلم فى أى موضوع كنا نشعر ان كلامه حلاوة وفى حديثه طلاوة.

حينما تحدث نيافته عن (بولس الخادم الغيور) قال :"قلنا فى تعريفنا للخدمة انها تعبير عن حب. وبقدر مايكون الحب كبيرا بقدر ما تكون الخدمة عظيمة ووفيرة الثمر .. والمحبة فى الخدمة يمكن ان نقيسها بمقاييس ثلاثة.

1. مدى البذل والتضحية.
2. الغيرة نحو خلاص الأخرين.
3. إحتمال الآلام.

ونحن هنا نستعيد هذه المقاييس لنطبقها على نيافته.

1- الأنبا يوأنس الخادم الباذل: كان نيافته يرى ان الخادم عليه ان يحرم نفسه من أى كرامة ومن كل متعة أرضية "لأن من يأخذ أجره هنا لا يكافىء هناك لكن تحرم نفسك من كل متعة هنا على الأرض. تنال هناك أجرك كاملا.

حينما كان يتحدث عن خدمة العظيم فى الرسل القديس بولس الرسول كنا نتذكر بذله هو وكيف لا يشفق على جسده المريض الواهن بل يعمل فوق احتمال قلبه الجسدى. وكما قال قداسة البابا .. جاء وقت..
] قلبه لم يعد يحتمل الجهد الكبير الذى يبذله وجاء وقت من الأوقات رقد هذا القلب واستراح من أعباء الدنيا[.

2- الأنبا يوأنس وغيرته على خلاص كل نفس: لقد كان نيافته يؤمن ان عبارة "ليأت ملكوتك" يجب ان تنبع من كل قلب يريد ان جميع الناس يخلصون. وحينما كان يتكلم متأملا فى غيرة القديس بولس على خلاص كل أحد وقف امام الآية "اسهروا متذكرين انى ثلاث سنين ليلا ونهارا لم افتر عن ان انذر بدموع كل احد". .. وظل يتأمل هل كان بولس الرسول يلح بدموع امام كل انسان محتاج للتوبة ؟ ام كان يزرفها فى المخدع امام الله من اجل هذه النفوس. ثم علق نيافته ان الدموع سلاح اقوى من الكلام.

وأنا بدورى اعلق هنا وقد كتبت عن الانبا يوأنس رجل الصلاة والدموع ان من اعتبر الدموع سلاحا لابد انه قد اختبر قوتها.

كان شديدا فى حرصه على خلاص انفس أبنائه ضاربا لهم المثل والقدوة بنفسه . حريصا على التأكد من سيرهم فى طريق الخلاص.

كانت روحه حارة تريد ان ملكوت الله ينتشر على الأرض تريد ان جميع الناس يخلصون والى معرفة الحق يقبلون.

3- الأنبا يوأنس واحتماله الألم من أجل الخدمة: لعلى تكلمت طويلا عن احتماله آلام الجسد.. قد كان لا يأبه بألم ذبحة أو أزمة قلبية أو أية آلام جسدية بل يتحامل على نفسه لكى يصلى أو يعظ او يدرس بالإكيريكية أو يقابل أفراد شعبه . لم يكف عن اجتماعه الاسبوعى بمدينتى طنطا والمحلة الكبرى حتى اخر اسبوع من حياته بالجسد . لم يكف عن لقاءاته العامة فقد التقى بأبناءه الشمامسة يوم 30/10/1987 وببناته المكرسات يوم 28/10/1987 وبطلبة الكلية الإكليريكية بصفوفها يوم السبت 24/10/1987. وظل يقابل أبناء شعبه حتى وقت نياحته. حينما أصبح حرا لكى يلتقى بإلهه الذى أحبه وكرس حياته لأجله.. إنطلقت روحه وهى تقول جاهدت الجهاد الحسن .. أكملت السعى .. حفظت الأيمان وأخيرا وضع لى إكليل البر.

لكننى أقول أن خدمة الأنبا يوأنس لازالت مستمرة فى كتبه التى تتلمذ عليها ولا زال عشرات الآلوف .. فى عظاته التى لازالت الآلاف تسمعها كل يوم .. فى القلوب التى أعدها لسكنى الله ولا زالت تخوض أشواط غربتها على الأرض حتى تصل الى ميناء الخلاص . فى شفاعته من أجل أبنائه وأحبائه وشعبه أمام العرش الإلهى .. وأنى لا أجد أبلغ من كلمات نيافة الحبر الجليل الأنبا بولا أسقف طنطا عن إستمرارية خدمة نيافة الآنبا يوأنس إذ يقول : ]إن الكتابة عن المتنيح الأنبا يوأنس فى سطور أمر صعب فهو مدرسة مليئة بكتب المعرفة وكرازة ممتلئة حيوية وشجرة ممتلئة أثمارا وينبوع أفاض على أبنائه بالغربية وكل الكرازة بماء الحياة وهو عين ماء حى لازالت حية بما تركته من كتب حية فى وجدها قوية فى تأثيرها وهى تحمل الينا كاتبها عبر التاريخ كشخص حى من بعد مماته وقائم من بعد رقاده ومؤثر من بعد سكوته[.

إن هذه الكلمات البليغة لا تحتاج الى تعليق إنما أتت معبرة من فم الجالس على كرسى إيبارشية طنطا وراعيها لتعبر عن إستمرارية خدمة المتنيح أبينا الأنبا يوأنس.

ختاما

لهذه الرحلة الممتعة بين جنبات بستان الفضائل .. ولهذه السيرة المتتبعة لحياة إنسان الله .. ولهذه الدراسة الموضحة كيف يقترن التعليم بالسلوك .. كيف نحيا الفضيلة أكثر مما نتكلم عنها فيكون ذلك تعليما واضحا للمخدومين.

أجد لزاما على أن أدون هنا لإحدى الرؤى التى رأى أبينا المتنيح فيها السيدة العذراء ووجدناها بين أوراقه بعد نياحته دونها تحت عنوان رأيت هناك.

رأيت هناك


تركنى أخى الروحى بعد جلسة ليست بالقصيرة فيها تحدثنا عن الأمور المختصة بملكوت السموات. لقد شعرت أثناء تلك الجلسة بقشعريرة تسرى فى كل عضو من أعضائى هى قشعريرة الخوف من دينونة الله العادلة. والندم على الوقت الذى انفقته مع أهل العالم .. بعد أن كنت جنديا أمينا ليسوع المسيح له المجد.

آويت الى فراشى ونمت نوما عميقا حتى شعرت بيد حنون تهزنى هزا خفيفا .. إنها العذراء الطاهرة القديسة .. رأيتها متسربلة بالنور من هامة رأسها الى أقمص قدميها .. وثيابها تشع منها النور كأنها الشمس فى بهائها ولمعانها.

أمسكت بيمينى .. فلما سجدت تحت قدميها أقامتنى بيمينها قائلة لى + قم ياابنى أنا أمة الرب+.
قادتنى .. فقلت لها الى أين ياأمى؟ أجابتنى الى مواضع الراحة الى المكان الذى هرب منه الحزن والكآبة والتنهد .. فقلت لها وكيف يكون هذا وأنا انسان خاطىء.. تبعتها فى خوف ورعدة وما أشعر بنفسى إلا فى وسط مكان يشع منه النور فى كل أرجائه ومن كل بقعة فيه . فى ذلك المكان رأيت قوما كل منهم وجهه يشع نورا عجيبا ويظهر على محياهم النور الإلهى.

قابلت أول من قابلت شيخا وقورا مسنا تتدلى لحيته الى قرب ركبتيه تظهر على محياه إمارات الإبوة .. فسألتها من هذا ياأمى؟ فأجابتنى "ألا تعرف هذا .. إنه أبونا إبراهيم أبو كل المؤمنين.."

لقد أيقنت أنى فى الفردوس فى مكان راحة وانتظار الأبرار هناك رأيت اسحق ورأيت يعقوب أبا الآباء. هناك رأيت داود الملك والنبى المرتل ..رأيته ممسكا بعوده ومزماره وهو يرتل أشجى الألحان .. أرهفت السمع فإذا بى أسمع تسابيح الله وشعرت كأنى بمنزلى وفى مخدعى أصلى صلوات نصف الليل بمزامير داود النبى . سمعته يقولها بنفس اللحن الذى به نقولها .. ياللعجب !! رأيت القديس العظيم الأنبا انطونيوس ككوكب عظيم جدا يحيط به كواكب أصغر منه حجما وأقل ضياء.

ولما تركته وجدت نفسى فى حضرة أبو مقار .. طرحت نفسى نحن قدميه وقلت له طوباك ياأبو مقار الكبير وطوبى لأولادك . فأقامنى بيده وقال لى لاتفعل هذا فإنى عبد مثلك. فطلبت منه ان يباركنى وأن يذكر خدمتنا فى مدارس الأحد فطلب الى الله من أجلنا.

ربوات ربوات وألوف ألوف .. قديسين لا حصر لهم .. هؤلاء جميعا ألقيت عليهم النظرة الأخيرة حينما جذبتنى العذراء الطاهرة جذبة هينة لكى أتبعها.

فقلت لها .. الى أين ياأمى .. فقالت اتبعنى! تبدل النور البهى الى ظلمة حالكة والجو المطمئن الى جو مفزع وذلك عندما وجدت نفسى وسط الأشرار يبكون بعيونهم ويصرون بأسنانهم ندما على مافرط منهم .. صرخت وقلت لها ارحمينى ياأمى ... ارحمينى من هذا المكان .. فقالت لى تعال لكى تبصر مكانك المعد مالم تتبع يسوع. فصرخت وقلت لها كفى .. لقد رأيت ... كفى هذه الظلمة الخارجية .. كفى البكاء وصرير الأسنان .. هناك رأيت الزناة والقاتلين والسارقين والماكرين والخادعين والكاذبين والحانثين والشاتمين والسكيرين والطامعين و....... رأيت كل من هؤلاء يتلوى تحت ثقل وطأة خطيته .. كل يتألم بألم مناسب لخطيته.

اقتربت من شاب بدين الجسم فارع الفامة وقد أحنى ظهره كثرة البكاء وفرط الحزن .. تفرست فيه فإذا به صديقى الذى فارقنى منذ بضعة أشهر .. قلت له علام تبكى ياصاح .. فقال لى أنى لا أبكى إلا ندما على أنى كنت أستهين بحديثك واستهزىء بكلماتك حينما كنت تدعونى لاجتماع الشبان وحتى حينما كنت تلح على كنت أجلس فى الإجتماع شارد الذهن ومشتت العقل. أفكر فى إخوان السوء وماينتظرنى من سعادة وهمية خادعة. ولقد اعترتنى رعدة عظيمة حينما قال لى "إن كل حرف مما كنت تقوله لى يأكل لحمى كنار .. إنى كنت فى الماضى أسألك ان تصلى لأجلى ولكننى لا أطلب منك الآن شيئا من ذلك فقد انكشف امامى كل شىء وحيث لا تنفعنى صلوات العالم أجمع فهى لا تستطيع أن تنقلنى الى النعيم .."

لقد امضيت هذه الدقائق مع صديقى وكأنى واقف على بركان أدرت النظر الى أمى العذراء راجيا اليها ان تنقذنى من هذا المكان.
خرجت أنا وأمى من هذا المكان الموحش . فتفرست فى وجهها كأنما اطلب اليها شيئا .. فقالت لى تحدث ولا تخف ماذا تريد .. قلت لها أريد أن أطمئن عن مصيرى ومكانى. فقالت لى ألا يؤمن بمواعيد يسوع "أنه ذهب ليعد لكم مكانا فمكانك ياابنى محفوظ بشرط أن تحب يسوع الهنا وتحفظ وصاياه" فقلت لها أنا أؤمن بذلك ولكن أليس مكانى خاليا ومعد لى .. قالت لى "نعم" فقلت لها أريد أن أراه .. أشارت إلى فتبعتها وإذا بها تشير الى كرسى بهى من نور ساطع .. وقال لى هذا مكانك.

تشبثت بالمكان وسألتها ان ترحمنى من العودة الى العالم فابتسمت وقالت لى "ليس لك أن تحدد المواعيد .. لكن لا تخف فإبنى يحبكم كثيرا وقد بذل ذاته لأجلنا جميعا".
حزنت ووجمت ..
فقمت من نوما فزعا وأنا أردد ..

"إذ ليس لنا دالة ولا حجة ولا معذرة من أجل كثرة خطايانا فنحن بك نتوسل الى الذى ولد منك ياوالدة الإله العذراء".

لأن كثيرة هى شفاعتك وقوية ومقبولة عند مخلصنا. لأنه تألم من أجلنا لكى ينقذنا".
نهضت ولكنى تمنيت لو أنى ظللت نائما أتمتع بهذه المناظر الطاهرة فى نور القديسين.