بقلم قداسة البابا شنوده الثالث
إن طبيعة الإنسان تساعده على النمو. فالذي يُحب المعرفة، يريد أن ينمو فيها. والذي يُحب المال، يريد أيضاً أن يُنمِّيه. وكذلك مَن يحب السياسة، ومَن يُحب الشهرة، ومَن يُحب الفن. كل من هؤلاء يريد أن ينمو فيما يُحب.
?? كذلك مَن يُحب الفضيلة والبِرِّ يُحب باستمرار أن ينمو: من حياة التوبة، إلى نقاوة القلب، إلى القداسة، إلى الكمال النسبي والذي يستطيعه بناء على عمل النعمة معه.
ولكن الذي يسير في طريق النمو الروحي لابد أن تُقابله عوائق لعلَّ أولها حسد الشياطين. والشياطين يحسدون كل الذين يتقدَّمون في حياة البِرِّ، لأنهم فقدوا هذه الحياة. وهكذا يقول الحكيم: " يا ابني إذا تقدَّمت لخدمة ربك، فهيئ نفسك لجميع التجارب ". الذى ينمو في روحياته، قد تشتد عليه الحروب الروحية. فيقاومها بكل ما يملك من جهد، وبكل عمل النعمة فيه. فإمَّا أن ينتصر ويستمر في نموه، أو يضعف أمام الحروب الروحية ولا يستطيع أن يتقدَّم أكثر في نموه.
لذلك إن تعرضت للحروب الروحية، فلا تتضايق. إنها من طبيعة الطريق الروحي ومن طبيعة الشياطين. ولكن قاوم بقدر ما تستطيع. وفي كل درجة جديدة تصعدها في السلم الروحي، توقَّع محاربة لإيقافك، واستعد. إن الشيطان يخاف من نموك، فيقاوم ذلك. ولكن محاربة الشيطان هى مُجرَّد محاولة منه، أمَّا أنت فكُن صامداً وقوياً.
?? والشيطان لا يحارب وحده، إنما له أعوان من البشر قد يحيط بك البعض منهم. هؤلاء يكونون من البيئة المحيطة بك لذلك تخيَّر أصدقاءك ومعاشريك ومرافقيك في الطريق. رُبَّما البعض منهم قد يوقف نموك، بل قد يرجعك إلى الخلف. وكما أن الصديق الصالح يجذبك معه إلى فوق، كذلك الصديق الخاطئ يحاول أن يجذبك إلى أسفل ويُعطِّل نموك.
وينطبق هذا الأمر في مُحيط الأسرة، إن كان أحد الزوجين شريراً. والإنسان البار إذا انتصر حيناً على التأثير الخاطئ، فرُبما إذا ضغطت عليه البيئة يوماً فيوماً رُبَّما تتعب نفسه البارة ويقف نموه. والزرع الجيد إذا أحاطت به الأشواك رُبَّما تخنقه.
?? ومما يعطل النمو الروحي الاهتمام بمظهر الفضيلة الخارجي، وليس بجوهرها. كأن يهتم إنسان بالنمو العددي وليس بالنمو الروحي في كل ممارسته الروحية. فيهتم مثلاً بكمية الصلوات، وليس بروحانيتها. أو يهتم بمظهرية الصوم من جهة الامتناع عن الطعام، دون أن يهتم بإخضاع الجسد من الداخل وإخضاع الفكر والقلب لوصايا اللَّه. وهكذا يهتم بالشكليات وليس بالعُمق، فيتوقف نموه.
?? ومِمَّا يُعطِّل النمو في الروحيات الاكتفاء بمستوى روحي مُعيَّن، لا يحاول الشخص أن يتقدَّم بعده. ويظن أن هذا هو المنتهى. أو يُحاربه الشيطان بأنه إن حاول التَّقدُّم روحياً أكثر من هذا، سيصل إلى لون من التَّطرُّف. ونحب أن نقول إن الذي يقف نموه، هو عُرضة أن يرجع إلى الوراء. لذلك حاول باستمرار أن تنمو، ولكن بحكمة. وضع أمامك المستويات العُليا التي وصل إليها بعض الأبرار والقديسين. لكي يحفزك هذا إلى مزيد من الجهاد. وضع أمامك قاعدة هامة وهى هناك فرق كبير بين النمو والتَّطرُّف. والحكمة هى الميزان بينهما.
?? ومن الأسباب التي تعوق النمو الروحي: الإرشاد الخاطئ. وذلك إن كان المرشد الروحي غير متمرس في الروحيات، أو كان له غرض خاص. فهناك مثلاً مرشدون يقودون مَن يسترشد بهم إلى الحرفية في تنفيذ الوصايا. وعن مثل هؤلاء قال السيد المسيح: " أعمى يقود أعمى، كلاهما يسقطان في حفرة ". لهذا سعيد هو الشخص الذي يكون تحت قيادة حكيمة واعية مختبرة. ولهذا أيضاً من الواجب عليك أنك لا تسمع نصيحة كل أحد
?? ومن أسباب عدم النمو: التقليد الخاطئ. حيث يلبس إنسان شخصية غيره بلا إفراز، ويُقلِّده في كل شيء بغير حكمة. أو يطبق حرفياً بعض أمثلة مِمَّن وردت سيرتهم في كُتب الآباء. وقد يحاول تقليد آخر درجة وصلوا إليها، دون أن يضع في اعتباره الدرجات المتوسطة التي سلك فيها هؤلاء الأبرار حتى وصلوا إلى مستواهم العالي.
?? ومِمَّا يُعيق النمو أيضاً، كبرياء الشخص إذا وصل إلى مستوى مُعيَّن. ويبدأ أن يقارن نفسه بمَن هم أقل منه. فيرتفع قلبه. وحينئذ تتخلَّى عنه النعمة بسبب كبريائه. فإمَّا أن يسقط، أو يقف نموه. أمَّا الإنسان المتواضع، فإنه مهما ارتفع في الطريق الروحي. لا يسمح لنفسه بأن يرتفع قلبه. ولا يُقارِن نفسه بمَن هم أقل منه، بل على العكس يُقارِن نفسه بالدرجات العُليا التي وصل إليها القديسون. ويرى أنه لا شيء بالنسبة إليهم. وحينئذ يرى الرب اتضاعه، فيعطيه مزيداً من النمو.
إننا نخشى من الكبرياء. ليس فقط في إيقافها للنمو الروحي. بل بالأكثر إنها قد تؤدي إلى السقوط. وفي ذلك يقول الكتاب: " قبل الكسر الكبرياء، وقبل السقوط تشامخ الروح ".
ومن أمثلة تأثير الكبرياء في إيقاف النمو: إنسان تفتقده النعمة وترفعه إلى فوق. فينسب ارتفاعه إلى مجهوده الشخصى وبِرّه الذاتى، لا إلى عمل اللَّه فيه. ولهذا قد تفارقه النعمة، فلا يستطيع أن يتقدَّم خطوة واحدة.
?? إن النعمة قد لا تبعُد عن الشخص بسبب كبريائه، إنما خوفاً عليه من الكبرياء. في ابتعاد النعمة عنه، يبدأ أن يشعر بضعفه، فيتَّضع. وبهذا الاتضاع ترجع إليه النعمة مرة أخرى.