عندما خلق الله الإنسان ، خلقه فى حالة فائقة للطبيعة 0 ولكنه فقد هذا السمو ، حينما سقط فى الخطية 0 فقد ما كان عليه من بر وبساطة وقداسة 0 وأصبحت طبيعته ضعيفة ، قابلة للميل وللسقوط 0
هذا من ناحية 0 ومن ناحية أخرى ، فإن الشيطان الذى يحارب الإنسان له طبيعة أقوى ، لأنه كان ملاكاً ، له طبيعة الملائكة " المقتدرين عنه للرب " أنقصته قليلاً عن الملائكة " ( مز8 )
والشيطان عندما فقد بسقوطه طهارته ، لم يفقد طبيعته 0 فلا تزال له الطبيعة الملائكية القوية 0 وعنه قال القديس بطرس الرسول : " أبليس خصمكم كاسد يزأر ، يجول ملتسماً من يبتلعه هو " ( 1بط 5 : 8 ) 0
قيل أيضاً عن الخطية إنها " طرحت كثيرين جرحى ، وكل قتلاها أقوياء " ( أم 7 : 26 )
فإن كان عدونا الشيطان بهذا العنف ، وإن كانت الخطية بهذه القوة ، فإن الإنسان بطبيعته الضيعفة ، لا يقوى كثيراً على الحروب العنيفة التى يشنها العدو عليه 0 فكان لابد له من قوة تسنده ، وهى النعمة كما قال الرسول :
" حيث كثرت الخطية ، ازدادت النعمة جداً ") ( رو 5 : 20 ) 0
أى أنه كلما ازدادت الخطية فى حروبها وعنفها ، هكذا تزداد النعمة لحماية الإنسان وإنقاذه فى الحروب الروحية 0
ولذلك كانت النعمة ضرورية حتمية للإنسان 0
ضرورة ارتضتها الرحمة الإلهية المشفقة على الإنسان 0
وأيضاً هى ضرورة اقتضاها العدل الإلهى ، ليقيم توزاناً بين مقاومة الإنسان والحروب التى يتعرض لها 0 بحيث لا تكون الحروب التى ضده أقوى من قدرته على الصعود لها 00
وبهذا فإن النعمة تحاول أن ترد الإنسان إلى رتبته الأولى ، بأن تمنحه القوة الت ستند ضعف طبيعته ، محافظة منها على أبديته 0
ولكن لماذا لم يجعل الله هذه القوة جزءاً من بيعتنا ، بدلاً احتياجتنا إلى قوة من خارجنا تسندنا ؟
أقول إنه قد منحنا هذه القوة حينما خلقنا 0 ولكنه وضع إلى جوارها حرية الأرادة 0 ونحن بحرية إرادتنا فقدنا تلك القوة بسقوطنا فجدد الله طبيعتنا ، وفى نفس الوقت ترك لنا حرية الإرادة 0
إن الله لم يرد أن يجعلنا مسيرين نحو الخير والبر ، وإلا ما كان لنا أجر إن فعلنا الخير 0 إنما منحنا الإختيار على أن تسند النعمة ضعفنا 00
وأيضا جعل النعمة قوة من الخارج ، لكى تظهر نية الإنسان فى طلب النعمة ، واشترك الإنسان بإرادته مع عمل النعمة ، وتمسكه بها ، وشكره على ما تعمله النعمة معه 0
بطريق كثيرة ، يمكن أن تصل النعمة إليك 0
تصل إليك النعمة عن الطريق الصلاة 0
المفروض فيك أن تطلب هذه النعمة 0 ترفع قلبك إلى الله وتقول له : اعنى يارب نعمة فى هذا العمل ، لأنك أنت القائل " بدونى لا تقدرون أن تعملوا شيئاً " ( يو 15 : 5 ) اعطنى يارب نعمة لكى أنتصر فى حروبى 0 فهوذا الكتاب يقول " الحرب للرب " ( 1صم 17 : 47 ) والخلاص يارب هو من عندك 0 " وليس لديك مانع أن تخلص بالكثير أو بالقليل ( 1صم 14 : 6 ) 00
صل أيضاً وقل : اعطنى يارب نعمة تقوينى 0 لأننى أصلى دائما مع المرتل وأقول " قوتى وتسبحتى هو الرب 0 وقد صار لى خلاصاً ( مز 118 : 14 ) اعطنى يارب نعمة تطهرنى انضح على بزوفاك فأطهر ( مز 50 ) " اغسلنى كثيراً من إثمى ، ومن خطيئتى طهرنى " ( مز 50 ) " توبنى فأتوب " ( أر 31 : 18 ) 0
اعطنى يارب نعمة تجعلنى أحبك أكثر من من كل شئ ، وأكثر من كل أحد 00
على أن النعمة إن لم تصل إلى الإنسان بصلاته ، فقد تأتيه بصلاة القديسين ، أو بصلوات الكنيسة 0
أنت لست وحدك فى جهادك ، إنما هناك قديسون كثيرون يصلون من أجلك 00 سواء من القديسين الأحياء أو الذين رحلوا عن عالمنا الفانى 00 ولعلنى أذكر كمثال صموئيل النبى الذى قال " حاشا لى أن أخطئ إلى الرب ، فأكف عن الصلاة من أجلكم " ( 1صم 12 : 23 ) وكذلك قول القديس بولس الرسول " ( ذكرى إياكم دائما فى أدعيتى ، مقدماً الطلبة لأجل جميعكم " ( فى 1 : 3 ، 4 ) كذلك الكنيسة تصلى باستمرار لأجلك فى كل احتياجات حياتك وتلب لك النعمة فى البركة التى تختم بها كل إجتماع ، بقول الأب الكاهن " محبة الله الآب ونعمة إبنه الوحيد ، وشركة وموهبة الروح القدس تكون مع جميعكم " ( 2كو 13 : 14 ) ولا ننس النعمة التى تأتينا عن طريق شفاعة الملائكة وصلواتهم 0
النعمة تصل إلينا أيضاً فى كل سر من أسرار الكنيسة :
فكل سر من أسرار الكنيسة سمى سراً لأنه يحوى نعمة سرية ينالها الإنسان عن طريق الصلاة وعمل الكهنوت 0
ففى المعمودية مثلاً ينال نعمة غفران الخطايا ، نعمة البنوة لله وللكنيسة ، وغير ذلك من النعم السرية التى لا يراها ، ولكنها توهب له 0 فالتبرير الذى يناله ، يقول عنه الكتاب " متبررين مجاناً بالنعمة ( رو 3 : 24 ) 0
وفى سر الميرون ( المسحة المقدسة ) ينال نعمة أخرى هى سكنى الروح القدس فيه 0 وعن ذلك قال الرسول " أما تعلمون أنكم هيكل الله ، وروح الله يسكن فيكم " ( 1كو 3 : 16 ) وطبعاً سكنى الروح فينا هو نعمة سرية لا نراها ، وهى أيضاً نعمة مجاناً 0
وفى سر التوبة ينال الإنسان نعمة المغفرة 0
وفى سر الإفخارستيا ينال المتناول نعمة الثبات فى الرب حسب وعده ( يو 6 : 56 )
وفى سر الكهنوت ، ينال الكاهن الجديد نعمة أخرى سلطان الحل والربط ، وممارسة الأسرار الكنيسة 0
وهكذا فى باقى الأسرار ، ينال ممارسها نعمة خاصة 00
لذلك نحن أيضاً نعمد الأطفال ، ليس فقط من أجل خلاصهم ( مر 16 : 16 ) إنما أيضاً لكى نفتح أمامهم الباب ليقبلوا النعم التى فى الأسرار الكنسية 0
لماذا نحرم الأطفال من نعمة البنوة ، ومن النعم الخاصة بكل سر من الأسرار المقدسة ؟! لماذا ننتظر عليهم إلى يكبروا ، ويقضوا كل تلك الفترة محرومين من كل تلك النعم ، بينما كلها نعم مجانية ؟!
نقول أيضاً إن الذى يحرم نفسه من بعض الأسرار المقدسة المتاحة له -كالإعتراف والتناول
إنما يحرم نفسه من نعمة توهب فى كل سر 000
النعمة توهب أيضاً للإنسان - من غير الأسرار ، ومن غير أن يطلب - كمجرد عطية من الله محبة الله وعنايته 0
الله الذى قيل عنه " من أجل صراخ المساكين وتنهد البائسين الآن أقوم يقوم الرب أصنع الخلاص علانية " ( مز 12: 5 ) وكما قال الرب لموسى النبى " قد رأيت مذلة شعبى الذى فى مصر وسمعت صراخهم بسبب مسخريهم 0 إنى علمت أوجاعهم ، ، فنزلت لأنقذهم 00 ) ( خر 3 : 7 ، 8 ) 0
مجرد أن الرب رأى مذلة الشعب ، وأنه سمع تنهد البائسين حتى دون أن يطلب هؤلاء أو أولئك ، يقوم الرب ليخلص ولينقذ 00 هناك أمثلة أخرى كثيرة فى الكتاب فيها النعمة توهب دون طلب :
مثال ذلك أنقاذ أسحق ، والسكين مرفوعة عليه :
لا اسحق طلب انقاذه ، ولا ابراهيم طلب نجلة ابنه من يده ولكنه النعمة الإلهية تدخلت 0 وإذا بابراهيم يسمع ذلك الصوت المملوء حنواًً : لا تمد يدك إلى الغلام ، ولا تفعل به شيئا 00 " ( تك 22 : 12 ) إن نعمة الله هى التى افتقدت اسحق فى تلك اللحظة الحرجة ، وأنقذته ، دون طلب 00
وأنت كذلك ، فى وقت ما ، دون جهد منك ، تزورك النعمة :
تجد قلبك ملتهباً نحو الله ، ومشتاقاً إلى الحياة 0 وكأنك تسمع صوت الله فى داخلك يدعوك إليه 00 إنها زيارة من النعمة 0
أو فى وقت ما ، تجد عندك مقاومة للخطية أو كراهية لها لم تكن عندك من قبل ، وليست بمجهود منك 00 بل هبة من النعمة 0 وعلى رأى القديس باسيليوس الكبير الذى سأله أحدهم عن رأيه فى الشخص الذى كان ينوى أن يرتكب خية ولم يرتكبها ؟ فقال القديس : لا شك أنه أعين من النعمة 0
ومن الجائز أيضاً أن تأتيك النعمة ، من أجل رضى الوالدين أو من أجل مساكين قد أنقذتهم او فقراء اشفقت عليهم 0
بسبب بركة الوالدين تأتى النعمة ، لأن الأمر باكرام الوالدين هو أول وصية بوعد ( أف 6 : 2 ) فمن أجل إكرامهما يهبك الله نعمة لأن حبهما لك يعمل كشفاعة فيك 00
كذلك يقول الكتاب " من يرحم الفقير ، يقرض الرب 0 وعن معروفه يجازيه " ( أم 19 : 17 ) وكيف يجازيه ؟ لا شك بعمل النعمة فيه 0 وهكذا فى مثل وكيل الظلم ، يقول الرب " إصنعوا لكم أصدقاء بمال الظلم " ( لو 16 : 9 ) هؤلاء الفقراء الذين أحسنت إليهم بهذا المال الذى كنت قدظلمتهم قبلا بعدم إعطائهم إياه ، يصيرون بإحسانك إليهم أصدقاء لك يشفعون فيك فيرسل إليك الرب نعمته 00 بل النعمة أيضاً تأتيك بسبب أى عمل خير قد فعلته 0 وربما تكون قد نسيته ، ولكن الله لم ينسه 0 الله الذى لا ينسى حتى كأس الماء البارد ( مت 10 : 42 ) 0
وقد تأتيك النعمة بسبب تواضعك 0
وفى ذلك يقول الكتاب إن " الله يقاوم المستكبرين 0 أما المتواضعون فيعطيهم نعمة " ( يع 4 : 6 ) ( 1بط 5 : 5 ) عجيبة هذه الآية التى اقتبسها أكثر من رسول 00 على أن اللله قد يعطى نعمة بسبب فضيلة أخرى 00 حتى دون أن تطلب 0
ومما يدل على أن النعمة يعطيها الله أحياناً ، دون طلب من المنعم عليه ، أن الله يمنح النعمة حتى للجمادات والعجمادات 0
لقد فكرت مرة كيف استطاع يوسف الصديق أن يخزن خلال السبع سنوات السمان قمحاً يكفى للسبع سنوات العجاف ؟! ورأيت فى ذلك عجباً من أعمال النعمة فقلت فى نفسى :
كيف أمكن للقمح المخزون أن يستمر فى المخازن سبع سنوات أو أكثر دون أن يسوس ؟! أليس هذا عملاً من أعمال النعمة 0
إنها النعمة التى حفظت القمح من السوس ، كما حفظت أجساد الثلاثة فتية فى أتون النار دون أن تحترق ، بل حفظت ملابسهم أيضاً ( دا 3 ) وكما تحفظ أجساد بعض القديسين دون أن يدركهما فساد ، فتظل بعد الموت سليمة لمئات السنين أو أكثر 00
إنها النعمة التى افتقدت الأرض ، وباركت إلى العام السادس 0
فإذا بغلة العام السادس تكفى لثلاث سنوات كما قال الرب إنه يأمر ببركته للناس فيها ( لا 25 : 21 ) تماماً حسب وعده أيضاً للإنسان البار " مباركة تكون ثمرة أرضك 00 مباركة تكون سلتك ومعجنك " ( تث 28 : 4 ، 5 ) إنها نفس النعمة التى باركت كوز الزيت وكور الدقيق فى بيت أرملة صرفة صيدا ، فلم يفرغا طول مدة المجاعة أيام إيليا النبى ( 1 مل 17 : 16 )
وهكذا كثير من العامة يسمون الخبز نعمة 0
بل يسمون أيضاً كل خير مادى يأتى للإنسان إنه نعمة من الله 0 إنها نعمة الله التى تفتقد حتى العصافير الصغيرة يعطيها طعامها وهى لا تزرع ولا تحصد ولا تجمع إلى مخازن ( مت 6 : 26 ) وواحد منها لا يسق بدون أبيكم ( مت 10 : 29 ) " وليس واحد منها منسياً أمام الله ( لو 12 : 6 ) ولذلك دون أن تطلب 0
نعمة الرب تهتم حتى بالدودة التى تسعى تحت حجر 00
ونعمة الرب تهتم بالفراشات وزنابق الحقل 0 حتى أنه ولا سليمان فى كل مجده كان يلبس كواحدة منها ( مت 6 : 29 )