كنت أعرفه شخصا حقانيا يحب الحق ويدافع عنه. وقد جاء في ذات يوم يطلب مشورتي, فقال لي: أنا إنسان صريح أحب الصراحة. ولاأقبل أن أكون بوجهين: أجامل الغير بأحد الوجهين, بينما أكون متضايقا من أخطائه. لذلك أتكلم مع كل أحد بصراحة. غير أن هذه الصراحة تسبب لي مشاكل مع من أصارحهم برأيي فيهم, أو من أعاتبهم في تصرفاتهم معي. فهم يتعبون ويسببون لي متاعب... فماذا أفعل؟ هل من الحرام أن أتكلم بصراحة, سواء في الرأي أو العتاب؟!
فأجبته: الصراحة ليست حراما. ولكن المهم مع من تكون صراحتك؟ وكيف تكون؟ أي ما هو الأسلوب الذي تتكلم به أثناء صراحتك مع غيرك؟ وهل هو اسلوب لائق أم غير لائق؟ هل هو أسلوب جارح أو قاس؟ وهل يحمل اتهاما ظالما ربما بسبب معلومات وصلت إليك وهي غير سليمة؟ وهل أنت في صراحتك تتدخل فيما لايعنيك, وتتجرأ علي ماهو ليس من اختصاصك؟ كذلك ينبغي أن تعرف الأسلوب الذي تتكلم به في صراحة مع شخص أكبر منك سنا أو مقاما أو مركزا. فلاشك أن الصراحة معه تختلف عن صراحتك مع شخص في مستواك, في نفس سنك ومركزك. وتختلف عن صراحتك مع صديق لك توجد بينك وبينه دالة تسمح بأن تستخدم معه الفاظا لاتستطيع أن تستخدمها مع شخص كبير: فمثلا تستطيع أن تقول لصديقك أنت غلطان في هذا الأمر. بينما لاتستطيع أن تقول لأبيك أو عمك, أو لأي شخص له مهابة في نظرك.
والصراحة أيضا تحتاج إلي مراعاة أدب المخاطبة.
يلزمك في ذلك أن تكون حريصا علي انتقاء الألفاظ, بحيث تستخدم ألفاظا تصل بها إلي هدفك, دون أن تهين من تكلمه أو تجرحه أو تسيء إليه, فكل ذلك غير لائق. نقول هذا, لأن هناك أشخاصا يستخدمون في صراحتهم ألفاظا تعكر الجو وتلهب الموقف. ويحاولون أن يخفوا خطأهم هذا تحت اسم الصراحة! ويكونون مدانين, ليس بسبب صراحتهم, وإنما لعدم حرصهم علي أدب التخاطب في الصراحة, أو بسبب عدم اللياقة. كذلك ينبغي أن تكون الصراحة في حكمة, حسب هدف روحي سليم, فما هو الهدف من صراحتك؟ هل هو التوبيخ والإهانة ومجرد النقد؟ أم الهدف هو تبليغ رسالة معينة؟ أم الهدف هو العتاب والتصالح؟ أم هدف آخر؟ فإن كان الهدف سليما, ينبغي أن تكون الوسيلة الموصلة أيضا هي سليمة, وتأتي بنتيجة طيبة. لأن مجرد التوبيخ في الصراحة قد يأتي بنتائج سيئة.
مثال ذلك شخص يقول: أنا صريح أقول للأعور إنه أعور في عينه. فهل ياأخي إن قلت للأعور هذه العبارة, تكون قد خسرته أم ربحته؟ وهل لو عايرته بعبارة أنت أعور, تكون صراحتك هذه سببا في إرجاع البصر إلي عينه العوراء؟! أم هي صراحة لمجرد التجريح والإهانة والإيذاء, بلا أية فائدة تجلبها منها!! مثل هذا الإنسان( الصريح) يري في الصراحة إثباتا لجرأته وشجاعته! فلو كان السبب منها مجرد إثبات الذات, لاتكون فضيلة. بل الصراحة السليمة هي التي هدفها الدفاع عن الحق, دون أن تكون للذات هدف منها, ثم أمامنا سؤال مهم وهو: هل لك سلطان التأديب أو التقويم أو الحكم علي الغير؟
إذن إن تكلمت بصراحة مع إنسان أكبر منك, فاخلط صراحتك بالأدب والحكمة. وإن كنت صريحا مع من هو أصغر منك, فلتكن صراحتك ممزوجة بالرقة والهدوء.
ولاشك أن هناك فرقا بين الصراحة وسلاطة اللسان! وإن كانت الصراحة دفاعا عن الحق, فاعلم أنه ليس من الحق, أن تستخدم أسلوبا جارحا لتقنع غيرك بما تراه أنت حقا بل إن احترامنا للناس يجعلهم أكثر قبولا لما نقوله لهم, وهم يقبلون الصراحة التي في أدب وحكمة.
أعود إلي الجزء الثاني من سؤالك وهو عن عتابك مع صديق أخطأ إليك. من حقك طبعا أن تعاتب بالأسلوب الذي يأتي بنتيجة طيبة. وأيضا للعتاب قواعد.
أولا: اعرف طبيعة صديقك: هل من النوع الذي يقبل العتاب أم هو لايقبله؟ ذلك لأن هناك من تعاتبه فيثور ويحاول أن يبرر نفسه, ويكثر الجدل, ويعتبر أنك تتهمه وتظلمه. وينتهي العتاب بنتيجة أسوأ. وصدق الشاعر الذي قال:ودع العتاب فرب شر.. كان أوله العتابا أما الصديق الواسع الصدر, المحب, الذي يقبل العتاب بصدر رحب, وبموضوعية دون أن يغضب وينفعل, فهذا يمكنك أن تعاتبه وتصفي الموقف معه..
ثانيا: الذي تعاتبه, عاتبه فيما بينك وبينه وحدكما, وليس أمام الناس. وذلك لأن البعض لا يقبل العتاب أمام الغير الذي تحدثه فيه عن أخطائه نحوك أمام الآخرين, فيظهر بذلك في صورة تقلل من شأنه أمامهم. ولذلك يري أنه لابد أن يدافع عن ذاته مبررا نفسه ـ وربما ـ مظهرا خطأك أنت.
ثالثا: يجب أن يكون أسلوب عتابك رقيقا ومقبولا وفي محبة. بحيث يبدأ أولا بذكر محاسن صديقك وفضائله ومواقفه الطيبة معك.. قبل أن تذكر الأخطاء التي تريد أن تعاتبه عليها. وبهذا تكون قد فرشت مقدمة من الود تجعله مستعدا أن يقبل ماتقوله بعد ذلك. واحذر أن تعاتب بعنف, وبألفاظ شديدة أو أن تكون كمن يريد أن ينتقم لنفسه أثناء العتاب الذي تحط فيه من قدر صديقك. فهذا لايقبله منك, وربما يرد عليه بالمثل ويشتعل الموقف.
رابعا: كن واسع الصدر, ولاتعاتب علي كل ماتراه خطأ, صغيرا كان أو كبيرا. فهناك بعض الأمور البسيطة التي لاتستحق العتاب, بل تدخل تحت عنوان المحبة تحتمل كل شيء وقد قال الشاعر العربي في ذلك:
إذا كنت في كل الأمور معاتبا
صديقك لم تلق الذي لاتعاتبه
فعش واحدا أو صل أخاك فإنه
مقارف ذنب مرة ومجانبه
إذا أنت لم تشرب مرارا علي القذي
ظمئت وأي الناس تصفو مشاربه؟!
لذلك نصيحتي لك: لاتخسر أصدقاءك عن طريق العتاب. وهناك أمور تصدر من صديق ولاتعجبك ولكن خذها بحسن نية. ولاتفكر في أن صديقك قد أراد أن يسيء إليك ربما كانت هفوة, أو زلة لسان, أو كلمة منه بأسلوب الفكاهة.. الخ.
نقلا عن الأهرام المصرية