التوبة كأية فضيلة ، ينمو فيها الإنسان ويتدرج . ويظل ينمو حتي يصل إلي كمالها . فما هي نقطة البداية في التوبة ؟ هل هي ترك الخطية من أجل مخافة الله .
هناك نقطة قبل ترك الخطية ، وهي الرغبة في التوبة .
لأن كثيرون لا يريدون أن يتوبوا . بل يجدون لذه في الخطية تدعوهم للبقاء فيها . أو إن طباعهم جميلة في أعينهم لا يريدون أن يغيروها ... لذلك فمجرد الرغبة في التوبة هي نقطة حسنة ، تتلقفها النعمة لالتي تسأل : أتريد أن تبرأ ؟ وتعمل عملها في الإنسان . وتكون أول خطوة بعد ذلك هي ترك الخطية بالفعل .
لكن أهم من ترك الخطية بالفعل ، تركها بالقلب و الفكر .
فهناك من يترك الخطية بالعمل . ولكن محبتها ماتزال في قلبه ، يحن إليها ، ويندم علي فرص معينة كان يمكنه فيها أن يخطئ ولم يفعل ! مثل هذا الإنسان ، ربما ترك الخطية من اجل وصية الله ، وليس لأنه يكرهها ... المفروض أنه يتدرج في التوبة حتي تنتزع الخطية من قبله .
وكمال التوبة هو كراهية الخطية .
أي يصل إلي الوضع الذي يكره فيه الخطية من كل قلبه ، ويشمئز منها ، ولا يحتاج إلي بذل أي جهد في مقاومتها ، لأنها لم تعد تتفق وطبيعته . وهنا يصل الإنسان إلي حافه النقاوة . ونقاوة القلب موضوع طويل ، سنفرد له فصلاً خاصاً في الباب الرابع ( علامات التوبة ) ، أو ربما نخصص له الباب الخامس . علي أن ترك الخطية التي تتعب الإنسان ،أو البارزة في حياته ، وكراهيتها ... تأتي بعده درجة أخري وهي :
ترك الخطايا التي تتكشف له بالنمو الروحي .
ذلك لأن الله من حنوه علينا ، لا يكشف لنا كل خطايانا وضعفاتنا دفعه واحدة حتي لا نقع في صغر النفس . وغنما كلما نسمع عظات روحية ، وكلما نقرأ في كتاب الله وفي الكتب الروحية تتكشف لنا ضعفات في أنفسنا وتقصيرات تحتاج إلي علاج وإلي جهاد وإلي توبه . وهكذا ندخل في عملية تطهير وتنقيه ، قد تستمر مدي الحياة .
لأن الشيطان قد يترك ميداناً ، ويحارب في ميدان آخر . و المفروض أن نكون مستعدين له كل الميادين . حتي الخطية التي نكون قد استرحنا منها فترة قد يعاود القتال فيها . وبهذا تستمر التوبة معنا مدي الحياة .... كما أن التوبة ، لا يجوز أن تقتصر فقط علي مكافحة السلبيات التي هي فعل الخطايا وأنما :
هناك توبة عن النقائض ، الخاصه بالنمو الروحي .
فالمفروض في التائب أن يصنع ثماراً تليق بالتوبه ( متي 3: 8 ) . وبهذا يدخل في ثمار الروح ( غل 5: 22) . فان كان لا يأتي بثمر ، فهو محتاج إلي توبه إلي توبه عن خطية عدم الإثمار ، لأن الكتاب يقول " من يعرف أن يعمل حسناً ولا يعمل ، فتلك خطيه له "( يع 4: 17 ) .
التوبة إذن ليست مرحلة وتنتهي ، إنما تستمر معنا
لأنه ليس احد بلا خطية ، ولو كانت حياته يوماً واحداً علي الأرض . فكلنا نخطئ ونحتاج إلي توبة . وهكذا تصير التوبه بالنسبة إلينا عملاً يومياً ، لأننا في كل يوم نخطئ . و " أن قلنا إننا لم نخطئ ، نصل أنفسنا وليس الحق فينا "( 1 يو 1 :
. إنما هناك فرق بين توبة الخطاة وتوبه القديسين .
الخطاة يتوبون عن خطايا هي كسر صريح للوصايا ، وتدل علي عدم محبة الله أما القديسون فيتوبون عن تقصيرات طفيفة سببها الضعف البشري . ويتوبون عن نقائض يشعرون بها لشهوتهم في حياة الكمال التي يرون طريقه طويلاً أمامهم ، ومازالت أمامهم مراحل ليعبروها جني يصلوا ، كل ذلك مع حفظ قلبهم في محبة الله . و قد وضعت لنا الكنيسة صلوات يوميه نطلب فيها التوبة .
ففي قطع الأجبية ومزاميرها كل يوم ، نلاحظ الصلوات الأتية :
1- الأعتراف بالخطية واستحقاق العقوبة ، كما في ( مز 6 ، 50 ) ، وقطع الغروب
2-طلب المغفرة ، كما في قطع تحليل السادسة ، وباقي الصلوات .
3-طلب إنقاذ الرب للمصلي من الخطية ذاتها ، كما في تحليل الثالثة .
4- طلب أرشادات لمعرفة الطريق كما في ( مز 119) ، وقطعه ( تفضل يارب ) .
5- لوم النفس و تبكيتها علي سقوطها وتهاونها كما في قطع النوم .
6- إيقاظ النفس للتوبة ، وتذكيرها بالموت و الدينونة ومجئ المسيح الثاني ، كما في قطع النوم واناجيل وقطع نصف الليل .
هذا يدل علي أننا نطلب التوبة كل يوم وكل ساعة .
وكمثال لذلك يقول المصلي في قطع صلاة النوم " هوذا انا عتيد أن أقف أمام الديان العادل مرعوب ومرتعب من اجل كثرة ذنوبي ... فتوبي يا نفس مادمت في الأرض ساكنه "، " أي جواب تجيبي وأنت علي سرير الخطايا منطرحة ، وفي أخضاع الجسد متهاونه "...
وفي صلاة العروب " إذا كان الصديق بالجهد يخلص ، فأين أظهر أنا الخاطئ ؟" . وفي صلاة الليل " أعطني يارب ينابيع دموع كثيرة ، كما اعطيت في القديم للمراة الخاطئة ". في صلاة السادسة " مزق صك خطايانا أيها المسيح إلهنا ونجنا ". وفي صلاة الثالثة " طهرنا من دنس الجسد و الروح . وانتقلنا إلي سيرة روحانية لكي نسعي بالروح ولا نكمل شهوة الجسد ".
ويعوزنا الوقت إن دخلنا في تفاصيل التوبه في صلوات الأجبية ، فهذا يحتاج إلي كتاب خاص . بعد كل هذا ، هل يجرؤ أحد ان يقول إن التوبه مرحلة إجتزناها وانتهت ودخلنا في السماويات ، وفي طلب المواهب و المعجزات !!
الذي يظن انه اجتاز مرحلة التوبة ، لم يفحص ذاته جيداً .
أو لم يفحص ذاته في ضوء الوصايا ، وبروح الإتضاع ... من منا مثلاً وصل غلي محبة الأعداء ؟( متي 5: 44 ) . او وصل ان يلهج في ناموس الرب النهار و الليل ؟ ( مز 1 ) . أو من منا وصل إلي الصلاة كل حين دون ان يمل ؟( لو 18: 1) ... الوصايا كثيرة ، ولم ننفذ منها شيئاً ... أخشي أن اتكلم عن التفاصيل ، فيقع البعض في صغر النفس . فالصمت افضل ...
إذن التوبة لازمه لكل منا كل يوم من حياتنا . ليت كل واحد منا يقرأ ويتأمل في الدرجات الروحية التي وصل إليها القديسون ، ليعلم كيف هو خاطئ ! والأعجب أن القديسين الذين وصلوا إلي تلك الدرجات كانوا يقولون إنهم خطاة ومحتاجون إلي توبة ، كانوا يبكون علي خطاياهم ... ماذا نفعل نحن إذن ؟!