15 مارس 2009
طول البال
بقلم قداسة البابا شنوده الثالث
جريدة الأهرام
هذه الفضيلة يسمونها أيضاً طول الأناة، وطول الروح، وسعة الصدر، والحليم، وفى ذلك قيل عن موسى النبى " وكان الرجل موسى حليماً جداً أكثر من جميع الناس الذين على وجه الأرض ".
?? والهنا الصالح ? تبارك اسمه ? طويل الأناة، وينبع ذلك من عمق رحمته. ولولا طول أناته علينا ? مع كثرة اخطائنا ? لهلكنا جميعاً. إنها طول أناة الله تقتاد الناس إلى التوبة.
وبطول أناته صبر على عبدة الأصنام زماناً طويلاً، حتى رجعوا أخيراً إلى الإيمان وعبدوه. كما صبر على الشيوعيين الذين وقعوا فى الألحاد، وبعد سبعين سنة عادوا إلى الإيمان. كما أطال الله أناته على أوغسطينوس فى خطاياه، حتى تأب أخيراً وصار قديساً... وبالمثل أطال الرب أناته على فلاسفة الوثنية حتى آمن البعض منهم.
?? طول أناة الله تقود إلى التوبة أو إلى الدينونة أى العقاب. فلا تظن يا أخى القارئ العزيز، أذا أطال الرب أناته عليك فى كل أخطائك وخطاياك المتكررة أنك بعيد عن العدل الإلهى، إنما هى فرصة تُمنح لك لكى تغيّر مسلكك، وإلا...
?? كذلك اذا أحاطت بك التجارب والضيقات، ولم يسرع الله إلى معونتك، لا تظن أنه قد تخلّى عنك. كلا، بل هو بطول أناته يعدّ الوقت المناسب الذى يُبعد فيه كل ضيقة عنك. تأمل مثلاً قصة يوسف الصديق، وكيف طال به الزمن فى عديد من الضيقات. وأخيراً دبّر الله الفرصة المناسبة التى جعله فيها الرجل الثانى فى مصر، ورفع من شأنه جداً.
?? إن قصة يوسف الصديق هى درس لنا. لذلك أطل أنت أناتك فى كل ضيقاتك. وثق أن معونة الله لابد ستأتيك فى الوقت الذى يراه مناسباً. كما أن الله ? بطول أناته ? إنما يعطينا نحن أيضاً درساً فى الصبر وفى التعامل مع الناس...
?? قد يتضايق البعض من معاملات الناس له، ومن أسلوبهم الذى لا يحتمله، ويطلب إليهم أن يغيروا أسلوبهم فلا يغيرونه. وربما تطلب الزوجة هذا الطلب من زوجها فيظل كما هو...
ولكن علينا أن نعرف أن طباع الناس تحتاج إلى وقت لكى يمكنهم أن يغيروها، وليس من السهل عليهم أن يغيروا أسلوبهم بسرعة. والأمر يحتاج منا إلى طول بال. وبخاصة لو كان أسلوب الناس قد تحول إلى طباع فيهم. فالبعض منهم لا يشعر أنه على خطأ، ولا يريد أن يتغير. والبعض يريد ولا يستطيع.
?? كذلك فإن طول البال يحررنا من الغضب على الناس، ويعطى العقل فرصة أن يتدبر الأمر. وعموماً فالإنسان الطويل البال، هو إنسان بطئ الغضب.
?? نفس الوضع بالنسبة إلى التعليم والإرشاد، يحتاج ذلك أيضاً إلى طول بال مع التلميذ حتى يقبل الدرس، وحتى يتفهمه ويهضمه، ثم يغرسه فى ذاكرته، ثم لا ينساه. إن المدرس الضيق الصدر لا يمكنه أن يفيد تلاميذه. فبعضهم لا يفهم بسرعة، ويحتاج مدرسه إلى أن يطيل أناته عليه حتى يفهم، وحتى يحفظ. والمدارس تطيل أناتها على الراسبين أيضاً. فالذى لا ينجح من الدور الأول يعطونه فرصة فى الدور الثانى لكى ينجح ويعوض ما قد فشل فيه من قبل.
?? أتذكر أننى منذ ستين عاماً أخذت درساً روحياً فى طول البال من أحد تلاميذى. كان طالباً فى إحدى المدارس الأجنبية التى كنت مدرساً فيها. وقد طلب منى أن أعطيه درساً خاصاً فى مادة هو ضعيف فى استذكارها. فأعطيته الدرس الأول ومعه واجب كانت نتيجة إجابته صفراً. ثم أخذ الدرس الثانى ومعه أيضاً واجب ليحله، وبالمثل كانت نتيجته صفراً كسابقه. فتضايقت وقلت له " أنت بهذا الشكل لا يمكن أن تنفع ". فعاتبنى هذا التلميذ وقال لى " لماذا تثبط همتى، وأنا بذلت كل جهدى وتحسنت ؟! ". فتعجبت من كلامه وسألته أى تحسن هذا وقد أخذت صفرين متتالين ؟! فقال لى " فى الواجب الأول كانت لى 18 غلطة فأخذت صفراً . وفى الواجب الثانى كانت لى 12 غلطة فقط فأخذت صفراً. إنه بلا شك تحسن ولو أنه تحت الصفر، إذ قلّت الأخطاء. فبشئ من التشجيع يمكن أن أتحسن أكثر، وأصعد من تحت الصفر وآخذ درجة ".
ومن ذلك الحين، وحتى الآن، مازالت فى ذهنى عبارة " التحسن تحت الصفر ". فأطلت بالى على ذلك التلميذ الذى صار فيما بعد مهندساً كبيراً.
?? إننا نحتاج أيضاً أن نطيل بالنا على الأطفال حتى ينمو تفكيرهم، وينضج إدراكهم، فيتحولون من مرحلة اللهو إلى الجدية. ولا شك لابد أن يأخذ ذلك زمناً. وهكذا تخطئ الأم التى تضجر من تصرفات طفلها، فتنتهره أو تضربه على أخطاء هو لا يعرف أنها أخطاء. ومن المفروض أن تتصف بطول البال حتى يمكنها أن تتعامل مع الطفل بما يناسب عقليته ونفسيته فى تلك السن.
?? بالمثل الصبى فى الصناعة التى يتدرب عليها، يحتاج إلى طول بال، حتى يتقن تلك الصنعه. فقد يخطئ فى فترة التدريب مرة أو مرتين أو أكثر، وهذا شئ طبيعى. فلا يجوز لمعلمه أن ييأس منه. بل يطيل باله عليه، حتى يكمل تدريبه.
?? وبالمثل فى الارشاد الروحى: قد يبذل المرشد وقتاً وجهداً فى قيادة شخص إلى التوبة. ثم يلاحظ أنه لم يتب بعد، فيدركه اليأس منه. وهذا خطأ، لأن التوبة لا تأتى هكذا بسرعة. إذ توجد معوقات كثيرة من التعود السابق على الخطية، ومن شهوات القلب، ومن المحاربات الخارجية. والأمر يحتاج إلى طول بال من المرشد، ومداومة التشجيع.
?? إن يئس المرشد من إمكانية توبة الخاطئ، فسوف يتركه إلى الضياع والهلاك وهكذا إذا يئس الطبيب من علاج مريضه فسيتركه إلى الموت لا محالة. الأمر فى الحالين يحتاج إلى طول بال. وكثير من الأمراض تحتاج إلى صبر من المريض والطبيب حتى يتم الشفاء منها، أو على الأقل حتى تتحسن الحال ويمكن احتمالها...
?? فى مجال العمل أيضاً: اذا قام شخص بمشروع، ليس له أن ينتظر نجاح مشروعه من أول خطوة. بل عليه أن يطيل أناته حتى يُعرف مشروعه وينتشر، وتنفتح أمامه الأسواق، وتنتصر على المنافسات، ويدخل فى تجربة الربح والخسارة، ويستقر أخيراً.
?? إن طول البال يلزم فى كل المجالات: فى العلاقات السياسية والاجتماعية، وفى السياسة والاقتصاد، وفى الحصول على عمل. بل وفى الوصول إلى كما الديمقراطية. وكقاعدة عامة لا يمكن الوصول إلى الكمال من أول خطوة، إنما بالتدرج والصبر.
?? والإنسان الذى ليس له طول بال، ما أسهل أن يقع فى القلق والضجر والانزعاج، وتتعب نفسيته ويفقد سلامه الداخلى. وقد يصاب بالاندفاع والتسرع مما تكون له نتائج سيئة. وربما فى تسرعه يأخذ قرارات أو مواقف ارتجاليه أو عشوائية. وبعض اناس ليس لهم طول بال فى حل مشاكلهم، فيلجأون إلى السحرة والمشعوذين لعلهم يجدون عندهم حلاً.